اتكأ مرزوق على ذراع عبد القوى حارس دكانه حتى وصل إلى أقرب مقعد فتهاوى عليه، وجلس يلتقط أنفاسه وهو يلهث من الوهن والضعف والخوف أيضاً، أتى له عبد القوى بكوب من ماء تجرعه ببطء مغمضاً عينيه فى استسلام، فبلل جلبابه بعد أن فقد السيطرة على يده المرتعشة منذ الصباح..
استفسر منه عبد القوى عما يفزعه إلى هذا الحد، فأجابه وهو منكسر مطأطئ الرأس، أن إدارة التموين بالمحافظة كشفت غشه للأغذية التى كان يبيعها طوال السنوات الماضية لأهل الحارة، ويخشى أن يؤذيه أحدهم، قد يكون مات أحد من أقاربه أو تسمم آخر من أهله ولا يعرف أين يذهب؟!
صمت عبد القوى برهة قطعها هتاف أهالى الحارة المتجمهرين أمام الدكان مطالبين بالقصاص من صاحبه، مهددين بقتله، استنجد مرزوق بحارسه طالباً إبعادهم.. تجهمت قسمات وجه عبد القوى حتى صار كتمثال جرانيت، وصوب لسيده نظرة حادة زادته خوفاً وجزعاً من مصير مجهول لاح فى الأفق القريب.
أغلق عبد القوى الدكان من الداخل بإحكام وأرسل أحد معاونيه لتهدئة أهل الحارة، وأطبق بقبضة يده على ذراع مرزوق حتى كاد أن يعتصرها، فاستسلم له فى وداعة دون مقاومة.. خرج به من باب خلفى صغير وسار به من حارة إلى زقاق حتى عرجا إلى طريق جانبى حتى وصلا المستوصف الحكومى فأودعه فيه، وعاد إلى الدكان من الطريق العمومى، فوجد أهل الحارة يطرقون الباب بكفوفهم، بينما ترتفع حناجرهم بالهتاف، حتى كادت ضلفتا الباب تنفصلان من هدير الصوت لا من شدة الطرق.
ما أن شاهدوا عبد القوى حتى هدأوا فقد كانوا يحبونه ويثقون فيه، وإن توجس بعضهم خيفة منه، فهو ذو بأس شديد ويحرس مرزوق ودكانه منذ سنوات بعيدة.
طمأنهم عبد القوى وهدئ من روعهم ثم أخبرهم أن مرزوق دخل فى غيبوبة فور وصوله المستوصف فصدقوه.. طلب منهم أن ينتخبوا اثنين لكى يتحدث معهما عن مستقبل الدكان، وتعويض الأهالى عن الضرر من أغذية مرزوق الفاسدة.
تقدم صالح الصفوف ممثلاً عن فئة بينما كان نافع واقفاً بالقرب من عبد القوى، معلناً عن تمثيله لفئات أخرى، واكتفى عبد القوى بهما، فاصطحبهما إلى داخل الدكان، وأفضى إليهما أنه لا يطمح فى إدارة الدكان، وإنما وجوده سيكون لفترة لحين استقرار الأوضاع والتخلص من البضاعة القديمة وتوريد جديدة صالحة للاستهلاك الآدمى، ثم يسلم إدارة الدكان لواحد منهما، على أن يتعهد بحراسته كما كان.
انبرى صالح صائحاً أنه يوافق على هذا الاقتراح، طلبا سؤال أهل الحارة عمن يختارونه لإدارة الدكان صالح أم نافع؟ اعتدل نافع فى جلسته وطلب وضع معايير وضوابط أولاً لمن يتولى الإدارة وبعدها يتم الاختيار حتى يضمن عدم التلاعب مرة أخرى ممن سيدير الدكان.. لم يعجب الحديث صالح وصمم على رأيه، بينما ظل نافع متمسكاً بما طرحه ولديه حجته القوية التى لم يناقشها صالح على الإطلاق، بل ظل يلتف ويدور من حولها، فحسم عبد القوى الأمر منحازاً لصالح وحدد مهلة ثلاثة أشهر بعدها يتم اختيار أحدهما لإدارة الدكان وتركهم وانصرف.
اختفى عبد القوى من الحارة ولم يعد يظهر إلا نادراً عندما يحتاج الأمر إلى قوة تردع ليخاف الآخرون، بينما ظل نافع يحاول إقناع الأهالى بحجته إلا إنهم وجدوا صعوبة فى فهمه، فقد كانوا أميين لا يفهمون معنى الضوابط والمعايير، لدرجة أن أعجب بعضهم بالعبارة فجعلها لافتة لدكانه!
أما صالح فقد استغل طيبة أهل الحارة وفقرهم فبعث رجاله ليبشروهم بالصلاح والجنة الموعودة، فلاقى قبولاً فى البداية، سرعان ما واجهه نافع بتصيده لكذب صالح المتكرر وتغليبه لمصلحته فلم يعد له من اسمه نصيب على الإطلاق.
ظل عبد القوى ينشر رجاله فى ربوع الحارة رويداً رويداً ويسيطر على مخارجها ومداخلها، ويجتمع بهم كل ليلة فى الدكان الذى كان يديره مؤقتاً، تاركاً صالح وغيره يخرجون أسوأ ما فيهم، ويقولون ما يريدون.
بعد مرور المهلة أتى صالح ونافع منهكين متعبين من جراء النقاش والحوارات والمشاحنات التى دارت بينهما، وحشدوا لها الآلاف من الأنصار.. وقفا أمام عبد القوى ففاجأهما بأنه لا يشعر باستقرار الأوضاع فى وجود صالح، وأن المهلة التى أعطاها له كشفته، فتهلل وجه نافع بعد أن ظن أنها دانت له، وصارت على مرمى حجر، إلا أن عبد القوى رمقه بنظرة حادة قائلاً: أما أنت فلم تنضج بعد وإداراتك للدكان الآن لا أطمئن لها بالدرجة الكافية، لابد من أن تنتظر فترة أخرى، وقبل أن ينطق نافع مستفسراً عن مدة تلك الفترة كان عبد القوى يجيبه وكأنه يقرأ أفكاره "إلى أجل غير مسمى" فقوت أهل الحارة مسئوليتى، ولا يجوز العبث به الآن، أمهلنى فترة أقدرها فأنا لا أرغب فى إدارة الدكان كما تعلم!
انقسم أفراد جماعة صالح على أنفسهم ما بين مؤيد ومعارض لعبد القوى كعادتهم، وخيم الوجوم على مؤيدى نافع فتسمروا فى أماكنهم، فيما مضى نافع وحيداً يجر أذيال الخيبة وعبارة عبد القوى الأخيرة ترن فى أذنيه، وتذكر أن والده قد رواها له من نصف قرن أو يزيد.. وما أشبه الليلة بالبارحة!
عدد الردود 0
بواسطة:
احمد الهمامى شاعر وعضو اتحاد كتاب مصر
العبره بين السطور
عدد الردود 0
بواسطة:
مروان ثابت- طبيب جراح - برلين
لا نريد عبد القوى
عدد الردود 0
بواسطة:
لواء حمدى بالمعاش
ما نحن مقدمون عليه
عدد الردود 0
بواسطة:
سحر فؤاد - كلية الاعلام
رائعة
عدد الردود 0
بواسطة:
د/ هالة الدرينى
ربنا يستر
عدد الردود 0
بواسطة:
نسرين محى الدين- شاعرة
الفخ
عدد الردود 0
بواسطة:
قارئ
التاريخ يعيد نفسه
عدد الردود 0
بواسطة:
ناديا الكاتب
الدستور اولا هو الحل
عدد الردود 0
بواسطة:
فؤاد حسنى - محام نقض
لا اتمنى ذلك
ارجو الايفعلها عبد القوى مرة اخرى
عدد الردود 0
بواسطة:
ماهر سيد على
حارس فقط