على رأى المثل الشعبى "يعملوها الصغار.. ويقع فيها الكبار".. فلم يكن أى من هؤلاء الأطفال يدرك أنه سوف يكون عود الثقاب الذى سيشعل الحرائق فى الغابة من حوله. فكان أول المحترقين بنارها. وأول الذين جرى تعميدهم بها فى سجل الخلود الوطنى.
كتب معاذ الخطيب على السبورة فى فصله الدراسى بمدينة درعا السورية "عليك الدور.. يا دكتور" مجرد عبارة كتبها طفل صغير لم يتجاوز الثالثة عشر من عمره. ربما استهواه السجع الكامن فى عبارته أكثر مما استهوته الرغبة فى التحريض الذى تنفى براءته الطفولية، أى أثر لها فى نفسه. فهو لا يعرف ماذا تعنى كلمة "ثورة" رغم أنها أكثر الكلمات ترديدا على مسامعه هذه الأيام. ولا يعرف ماذا يعنى الظلم والاستبداد الذى يدفع الناس للحراك ضده والاحتجاج عليه. بل ربما لا يعرف شيئا خارج حدود عائلته الصغيرة. ومع ذلك فقد هرعت قوات الأمن مدججة بآلة الحرب لإلقاء القبض على الطفل وكل زملاء الفصل الذين قرأوا عبارته على السبورة وضحكوا فى سذاجة لا يعرفها سوى الأطفال.
الذى كتب بجهالة.. والذى قرأ بسذاجة. أصبحوا فى غمضة عين إرهابيين وعملاء ومندسين. فجرى التعامل معهم بنفس الطريقة التى يجرى التعامل بها مع نزلاء جوانتنامو. الكى بالنار وخلع الأظافر والجلد بالسياط والركل بالأحذية.. فمات معاذ.. ومعاذ الله أن يعيش عميل أو خائن فى وطن ينعم بالشرفاء فى سدة حكمه!
وفى الكويت.. سأل باسم. الطفل المصرى ذو العشر سنوات، معلمته: لماذا لا تقومون بثورة فى الكويت.. لم يكن باسم يدرك معنى كلمة "الثورة". ولكن حين رأى الناس فى بلده مبسوطين وفرحانين بثورتهم. تمنى باسم لأطفال الكويت أن يفرحوا مثله كما فرح هو.. أراد أن يقاسمه زملاؤه الكويتيون فرحته بالثورة. ولم يكن يدرى أنهم سيقاسمونه الحزن على فراقهم. فقد قررت السلطات الكويتية فصل هذا التلميذ الذى جاء من مصر ليحرض "العيال" على الثورة!!
وفى البحرين قامت الطفلة آيات القرمزى بإلقاء قصيدة فى ميدان اللؤلؤة وسط المحتجين من الشباب تتغنى فيها بحب الوطن. فتم إلقاء عليها. وقدمت لمحاكمة عسكرية بتهمة التحريض "على حب الوطن"!
ربما لم تكن آيات تريد أكثر من استعراض موهبتها فى تأليف الشعر وإلقائه. ولم تكن تطمع من وراء ذلك فى أكثر من تصفيق الحاضرين لها. ولم تكن تعلم أن موهبة الشعر وحب الوطن فى ظل هذه الأنظمة هو جريمة عقابها السجن. ليتها كانت موهوبة فى الرقص!
معاذ وباسم وآيات.. ليسوا مجرد أطفال بل هم عملاء مندسون وسط الجماهير لتحريضهم على الثورة. وربما كانوا أعضاء فى تنظيم القاعدة أو الألوية الحمراء أو اليد السوداء.. وعليهم أن يعترفوا بذلك تحت وطأة التعذيب والكى بالنار. وإلا سيدفعون حياتهم ثمنا للإنكار. وخيانة الوطن. ولا يقول أحد أنهم مجرد أطفال فأطفال اليوم هم رجال الغد.. فلماذا ننتظر حتى يكبر هؤلاء ويقلبون نظام الحكم على رؤسنا. فلنبادر بالتخلص منهم من الآن قبل أن يستفحل خطرهم علينا..!
فى مطلع السبعينيات تم اعتقالى لأول مرة وأنا فى العشرين من عمرى وفى العام الأول لى فى دراستى الجامعية. وحين واجهنى المحقق بتهمتى فى معتقل لاظوغلى الشهير لم أتمالك نفسى من الضحك. فقد كانت التهمة هى قلب نظام الحكم. فقلت للمحقق إن نظام الحكم الذى يقلبه "عيل" هو نظام مقلوب بالفعل ويحتاج لمن يعدله. رغم إعجاب المحقق بردى كما بدا على وجهه. إلا أنه أمر الواقفين حولى من زبانيته أن يحصلوا منى على ثمن جرأتى فى الرد عليه. ولا يزال ذراعى الأيسر يذكرنى حتى اليوم بفداحة الثمن الذى دفعته فى تلك اللحظة!
فعلا.. النظام الذى يخاف على نفسه حتى من العيال هو نظام اللا نظام ويحتاج إلى من يجعله نظاما وليس مجرد عصابة يخشى أفرادها حتى من نقيق الضفادع !!
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
مجدي المنسي
أسوأ طباع البشر