عندما نعود بذاكرتنا إلى الوراء يعنى فى الخمسينيات ونفتكر ونقول كان ياما كان أيام زمان كان فى قريتنا الصغيرة وحدة صحية فيها طبيب عظيم وأكثر من عشر ممرضات وطباخ ومراقب صحى وعمال، كنا نسميهم تومرجية وفنى تحاليل وكلهم كانوا من خارج القرية ويبيتون فى الوحدة ليلا ونهارًا.. الوحدة دى كانت وحدة مجمعة يعنى فيها حجرة عمليات وقسم داخلى وصيدلية بها كل أنواع الأدوية بلا استثناء وسيارة إسعاف وسائق جاهز دائما لنقل أى مريض إلى أى مستشفى كبير لإسعافه. تخيل معى أن قرية مثل قريتنا كانت تتمتع بكل هذه الرفاهية الصحية فى أول عصور ثورة 1952م التى آمنت بمجانية الصحة والتعليم التى كفلها الدستور.. تخرجت فى كلية الطب عام 1980م وكل مكان عملت فيه كان المريض يأخذ حقوقه كاملة فى العلاج المجانى المتوفر سواء كان علاجا طبيا أو جراحيا أو تحاليل طبية أو إشاعات. الآن أنا أعمل فى مستشفى مركزى سعته أكثر من مائة وخمسين سريراً به عيادة خارجية شبه خاوية على عروشها لا يوجد بها الأدوية اللازمة للمرضى المساكين والقسم الداخلى بالمستشفى يعانى من نفس مشكلة نقص الأدوية والمستلزمات هذا علاوة عن انعدام مستوى النظافة بسبب نقص العمال وضعف الإشراف الإدارى على المستشفى.. جميع مراتب الأسرة والأثاثات والمفروشات متهالكة وغير مطابقة لأى من مواصفات الجودة النوعية.. يجلس على كرسى المدير راجل كل همه المكافآت والبدلات وطبعا يتم نهبها بالقانون.. وأيضا لاحظت أن الجميع بلا استثناء(أطباء، ممرضات، فنيين. وإداريين وعمال) مصابون بالإحباط الشديد لتدهور وانهيار الخدمات بالمستشفى وأيضا ضعف المرتبات.. كل ذلك ظهر بشكل حقيقى عندما هب العاملون على قياداتهم التى تم خلع أكثر من 50% منهم من مناصبهم.
فعلا بارك الله فى الشباب من الأطباء الذى دعوا للإضراب وإن كنت أنا شخصيًا مش موافق على توقيته مع إيمانى الكامل بمبرراته أضربوا عن العمل مطالبين بزيادة مخصصات الصحة إلى 15% من ميزانية الدولة لتوقير الدواء وتطوير المستشفيات وتحسين دخل العاملين بوزارة الصحة.
أقولها بصراحة تحولت جميع المنشآت الصحية إلا القليل إلى أماكن لصرف إعانات بطالة للعاملين بها لأنها لا تكفى أبسط متطلبات الحياة الكريمة.. وعجزت جميع مستشفيات وزارة الصحة عن تقديم خدمة صحية تتناسب مع العصر الذى نعيشه.. ونظرًا لفقدان ثقتنا فى قياداتنا وفقدان ثقة المرضى فى هذه المنشآت الصحية بدأنا نلاحظ حدوث اعتداءات كثيرة على العاملين بالمنشآت الصحية بسبب النقص الشديد فى الإمكانات والإهمال وعدم الالتزام من الجميع.
طبعا نظام الرئيس المخلوع ولجنة السياسات بالحزب الوطنى المنحل، عندما فقدوا إيمانهم بأهمية العلاج المجانى الذى كفله الدستور اختاروا وزيراً تم تربيته فى هذا الحزب ويساعده وكلاء وزارة ومديرو إدارات ومديرو مستشفيات يتم اختيارهم بنفس المعايير المعروفة لنا جميعا موافقة أمن الدولة تزكية الحزب وأحيانا الرشوة، والعياذ بالله.. كل ذلك سمح بتمرير ميزانية غير عادلة وغير كافية لوزارة الصحة وفى ظل هذه الميزانية الضعيفة كان لابد من التخبط ووضع سياسات غير واضحة وغير قابلة للتنفيذ العملى سياسات تصلح لترقيع ثوب متهالك من كل مكان.
كل هذا الخراب الإدارى والتنظيمى ظهر على أرض الواقع فى صور عدة نذكر منها على سبيل المثال:
أولا: صرف مليار جنيه على إنشاء وتجهيز مستشفيات التكامل الصحى والتى ثم إلغاؤها وتحويلها إلى مراكز طب أسرة لم تعمل حتى الآن وبها حجرات عمليات مغلقة وأجهزة تركت لعوامل التعرية منذ عدة سنوات.
ثانيا: إلغاء وغلق عشرات المستشفيات النوعية مثل مستشفيات الحميات والصدر لتقليص الميزانية وتشتيت العاملين بها وسلب ونهب محتوياتها واستغلال مبانيها فى الأعمال الإدارية بالمخالفة للقوانين.
ثالثا: اختراع جديد اسمه القوافل الطبية التى كان الهدف منها عمل دعاية كذابة للحكومة والحزب المنحل بالرغم من التكاليف الباهظة التى يمكن استخدامها فى تجهيز المستشفيات المهملة وتوفير الأدوية.
رابعا: اختراع آخر اسمه العلاج على نفقة الدولة وخاصة للأمراض المنتشرة فى المجتمع مثل السكر والضغط وأمراض الكبد مع العلم أن هذه المليارات يمكن صرفها فى مجال توفير هذه الأدوية ولايخفى على أحد ماتم ارتكابه من جرائم فساد فى هذا القطاع واستخدمه الناس الكبار الذين هم أصلا ليسوا فى حاجة إليه فى التربح والإفساد.
خامسا: صناديق تحسين الخدمة التى لاتخضع للجهاز المركزى والتى تم تقسيمها إلى عدة صناديق ليتم تكرار الصرف منها لعصابة معدودة على الأصابع وبقية الفتات لباقى العاملين هذا إن تبقى شىء مما أدى إلى الاحتقان والإحباط فى كل المنشآت الصحية بلا استثناء.
سادسا: سياسة متخبطة وتخطيط سيئ وفاشل لبناء مستشفيات جديدة للتطوير والتوسع المطلوب هذه السياسات أدت إلى بقاء مئات المستشفيات تحت الإنشاء من عشرات السنين ومهدر فيها ملايين بل ربما مليارات الجنيهات ولم يتم الانتهاء من استكمال إنشائها حتى اليوم.
كل ذلك وأكثر بكثير وماخفى كان أعظم وماسمعناه جميعا من استغلال المناصب فى التربح والحصول على أراضى دولة ومرتبات خيالية للسادة المستشارين فى ديوان الوزارة وأضف إلى ذلك ما تناقلته وسائل الإعلام من أقاويل حول شهادات الوفاة الخاصة بشهداء ثورتنا والاستخدام السيئ لعربات الإسعاف والمعاملة السيئة للجرحى واللغط حول تقاريرهم الطبية كل ذلك يحتم علينا أن نطالب المجلس الأعلى للقوات المسلحة بتعيين وزير للصحة من إدارة الخدمات الطبية للقوات المسلحة تكون مهمته الأولى تنظيف الوزارة من فلول النظام السابق وعمل سياسة صحية شريفة تسير عليها البلاد وإصلاح ماتم إفساده وإعادة الروح إلى أجساد مستشفياتنا المنهكة ورفع الروح المعنوية للعاملين بالصحة ليس بزيادة المرتبات بل بإرساء مبادئ الحرية فى اختيار القيادات والعدالة الاجتماعية والمساواة وأعتقد أن هذا الطلب ليس بكثير على مصرنا الحرة والأبية مع كامل احترامى للجميع بلا استثناء.
د.عبد الجواد حجاب يكتب: الصحة وزارة دمرها المخلوع
الجمعة، 10 يونيو 2011 07:21 م