رحل أسامة بن لادن، لكن هذا لا يعنى غياب فكره ورؤيته للصراع بين الغرب والعالم الإسلامي. فقد تحول بن لادن، بعد أحداث الحادى عشر من أيلول 2001، إلى أيقونة، إلى رمز للمواجهة بين الإسلام والغرب، وإلى تأكيد على وهم، آمنت به قطاعات من النخب الإسلامية والقومية العربية، بأنه يمكن نقل المواجهة إلى قلب أمريكا، حيث ظنت هذه القطاعات أن الهجمة التى نفذتها القاعدة قد أدت إلى إضعاف القوة الإمبريالية الأمريكية من خلال مهاجمة رموز قوتها ممثلة فى برجى مبنى التجارة العالمى ومبنى البنتاغون. وعلى الرغم من تآكل قوة، وربما عزيمة القاعدة، بعد تلقيها ضربات متواصلة على أرض أفغانستان والعراق، خصوصا، وفى أرجاء عديدة من العالم كان المؤمنون بفكر القاعدة يعملون فيها كخلايا نائمة جرى تحريكها لتنفيذ عمليات خارجية أو داخلية فى الأوقات المناسبة، فإن رحيل زعيم القاعدة لا يعنى أن فكر القاعدة سيختفي.
لقد كان ما آمن به أسامة بن لادن تطورا فى فكر الجماعات الإسلامية المتطرفة وفكر التكفير والهجرة، الذى وجد جذوره فى أفكار المفكر الإسلامى الهندى أبو الأعلى المودودى وأثّر بعد ذلك فى فكر سيد قطب، وصولا إلى تصورات الإسلام الجهادى الذى يحتضن أيديولوجية المواجهة المسلحة بين المسلمين من جهة والغرب "الصليبي" واليهودية العالمية من جهة أخرى. هذا يعنى أن بن لادن تحول إلى رمز لظاهرة ثقافية أيديولوجية وجدت لها تربة خصبة فى أجواء الشحن والصراع، والعودة الظافرة للإمبريالية الأمريكية فى زمان إدارتى كل من جورج بوش الأب وجورج بوش الإبن، وفى مرحلة استفردت فيها إسرائيل بالفلسطينيين، وتآكل فيها النظام العربى وتهاوى بعد احتلال صدام حسين للكويت، ثم احتلال أمريكا للعراق. وهو ما قوى شوكة القاعدة، وأدى إلى ظهور تيارات إسلامية سلفية متشددة أخرى، استلهمت فكر القاعدة، وبدأت تعمل بالتنسيق معها، أو فى معزل عنها.
رحيل أسامة بن لادن لن يعنى إذن اضمحلال تأثير فكر القاعدة فى الأوساط الإسلامية المتشددة. سيظل العالم بالنسبة للإسلام الجهادى مقسوما إلى فسطاطين، وستصنف البلدان إلى "دار إسلام" أو "دار كفر". وسوف تغذى كراهية الإسلام فى أوساط اليمين فى الغرب هذا الفكر المتشدد وتبقى شعلته متقدة. ولقد رأينا خلال العقدين الماضيين، أى فى الفترة التى هيمن فيها المحافظون الجدد فى الإدارة والمجتمع الأمريكيين، صعود ظاهرة التشدد والتطرف فى الفكر الجهادى الإسلامي، كما أمد جورج بوش الإبن، الذى صنف العالم، مثله مثل أسامة بن لادن، إلى "من هم معنا" و"من هم ضدنا"، إلى "متحضرين" و"برابرة"، التيارات الإسلامية المتطرفة بأسباب الوجود والتغلغل فى أوساط الشباب العربى والمسلم الناقم على عنفوان الإمبريالية الأمريكية الزاحفة باتجاه العالمين العربى والإسلامي.
ما يحمينا من تصاعد تيارات التطرف حقا هو الثورات العربية الراهنة، وحركات الاحتجاج والرفض التى تطالب بالإصلاح والتغيير؛ الترياق الشافى من فكر القاعدة يتمثل فى السعى إلى إرساء مجتمعات مدنية تقوم على المساواة بين مواطنيها وتستند إلى دساتير عصرية تؤكد على الفصل بين السلطات واستقلالية القضاء والديموقراطية وحرية الفكر والتعبير. ولقد شهدنا فى الثورات والانتفاضات الجماهيرية العربية أن الشعارات المرفوعة تشدد على مدنية الدولة وضرورة إشاعة روح القانون فى الدولة والمجتمع. وهذا مناقض تماما لفكر القاعدة، والإسلام الجهادى المتطرف عموما، الذى لا يؤمن بالديموقراطية، ويسعى إلى القبض على السلطة بوسائل مسلحة. ولعل هذا الفصل من تاريخ العرب المعاصر قد انتهى، لا بموت بن لادن، بل من خلال ما حققته، وستحققه، الثورات المدنية التى ضربت بعصاها السحرية هذه المنطقة من العالم.