نتساءل دائماً عن سر استمرار النظام السابق لسنوات طويلة، رغم عدم رضا المصريين. فى الواقع، أقام النظام دعائم حكمه على ركائز ثلاثة: القهر والفساد والدروشة الدينية.
فيما يتعلق بالقهر، كانت نبرة النقد فى الصحف عالية، ومع ذلك لم تكن علامة على الحرية، فقد تجلى القهر فى أساليب عديدة مثل الاستمرار فى العمل بأحكام الطوارئ التى تسمح للنظام باعتقال أى مواطن دون إذن القضاء، ومد سلطان أمن الدولة إلى جميع جوانب الحياة الاجتماعية، وتزوير الانتخابات بما يسمح بتكوين برلمان يشرّع للنظام ما يحتاج إليه من قوانين تصادر حريات المواطنين وتضمن عدم مساءلة أعوانه، بالإضافة إلى الكيد للمعارضة والاضطهاد الوظيفى وآليات أخرى.
وتمثل الفساد فى فتح الباب للكسب غير المشروع للطغمة الحاكمة، وتكوين الثروات الهائلة من النهب والعمولة والمضاربة والتسقيع والتعطيش، وليس من الإنتاج كما هى الحال فى المجتمعات السليمة، وللحصول على تواطؤ اجتماعى مع الفساد أبقى النظام على هيكل للأجور يمثل فضيحة عالمية، مقابل أن يغض الطرف عن انتشار الرشوة والبقشيش والغش والدروس الخصوصية وجمع الأتاوات، وكلها حيل يدبر الأفراد بها سبل العيش، ولكنها أيضاً سرطان يقضى على الاقتصاد القومى، فتعيش البلاد على القروض والمعونات التى تنهب بدورها.
والدروشة الدينية المقصود بها الإثارة المستمرة لموضوعات دينية بهدف إلهاء الناس، يوجد فى مصر بالطبع، كما فى بلاد أخرى، مواطنون يأخذون دينهم ومشاكل عصرهم مأخذ الجد ويبذلون جهداً صادقاً للبحث عن حلول، ولكن هناك من ينشغلون بمشكلات زائفة، وهناك أيضاً من يحترفون إثارتها لصرف الناس عن التفكير فى المشاكل الناتجة عن سوء إدارة النظام للبلاد.
وأول مظاهر الدروشة هى تلك التوترات الجماعية التى تحدث إذا أسلم مسيحى أو إذا تنصر مسلم، رغم أن هذا شأن فردى، وحق للأفراد، وتلك التعبئة الشعبية والاضطرابات التى تحدث بسبب بناء الكنائس، والتحرش المستمر بالبهائيين وإيذائهم.
كما عرفت مصر فى العقود الأخيرة ظاهرة الدعاة الجدد الذين يحتشد لهم الآلاف وتنتهى موعظتهم بحالة من البكاء والنهنهة الجماعية، وهو أسلوب مستعار بتفاصيله من الوعاظ البروتسانت فى الولايات المتحدة، ويزدهرون فى ظل الأزمات الاقتصادية كما بين الأديب الأمريكى سنكلير لويس فى قصته "الدجال".
كما انشغلت مصر أيضاً بظاهرة الفنانات التائبات اللاتى اعتزلن التمثيل لأنه حرام، ثم عدن للتمثيل لأنه سلاح فى يد الفضيلة، وهن بالطبع أحرار، ولكن المشكلة هى كمية الصفحات والساعات التى تتاح أمامهن ليعلموا الناس ما هو دور الفن وماهى رسالة الإنسان فى الحياة.
وبينما انهارت فى مصر ميزانية البحث العلمى وتراجع دور الجامعات ، ازدهرت ظاهرة رحلات العمرة حتى بلغ نصيب المصريين منها حوالى 85%، والـ15% الباقية للعالم الاسلامى بأسره، وبالطبع كل فرد حر فى أن يسافر حيث يشاء، ولكن المشكلة كانت تأتى من دعم الدولة الفقيرة والمديونة لهذا الاتجاه، فبينما كانت الجامعة تصرح بأنها لا تستطيع تغطية نفقات دفع عملية جراحية لزميل وكنا نكتتب للمساهمة فى علاجه، كان يصل إلينا فى الأقسام خطابات بدعم الجامعة لرحلات العمرة لأعضاء هيئة التدريس، وهو ما يعنى أن أموال الجامعة تذهب لشركات السياحة.
وبينما كانت مصر قادرة على إبهار العالم بأبنائها الحاصلين على جوائز نوبل فى الآداب والعلوم والسلام، مما يزيد من تقدير العالم لثقافة هذا البلد، كانت الصحف العالمية تعرض فى صفحاتها الأولى أخباراً عن محاكمات تجرى فى مصر بتهم مثل الإساءة للأديان وانكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة، وهى المحاكمات التى نسيها العالم منذ فترة العصور الوسطى، وأغرب من التهمة كانت العقوبة: "التفريق بين الزوجين".
وامتلأت صحف العالم أيضاً بأخبار الفتاوى الغريبة الصادرة من مصر مثل رضاع الكبير والتداوى بالبول وتحريم التماثيل، وهى فتاوى كانت دائماً موجودة ولكن كان نصيبها التجاهل والتهميش، ولكنها تحولت فى ظل هذا المناخ إلى موضوع يشغل المجتمع ووسائل إعلامه وينقسم الناس بشأنه لتبدأ معارك التكفير المتبادل.
يكفى هذا القدر... المهم هو ما العمل؟
يمكن إنهاء حالة الطوارئ وصياغة دستور جديد يضمن الحريات الشخصية والعامة واستقلال القضاء، ويكفى هذا للقضاء على القهر، وبالنسبة للفساد يمكن تعديل هيكل الأجور وتوفير الحقوق الأساسية فى العلاج والتعليم مع اقتصاد مرشد برقابة نزيهة وحازمة، ولكن بالنسبة للدروشة الدينية لا يمكن عمل شىء، فهى لن تختفى بقوانين وإجراءات، كل ما نأمل فيه هو أن يهتم النظام الجديد والمواطنين بطرح المشكلات الحقيقية والتفكير الجدى لكيفية حلها والاستجابة للتحديات التى يطرحها علينا عصرنا والعالم الذى نعيش فيه، وما إن يبدأ الاهتمام بهذه المشكلات حتى تختفى المشكلات الزائفة من تلقاء نفسها، فهى مجرد سحابة ثقيلة, ستنقشع ولكن ببطء.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة