فى مقالى الأخير بـ "اليوم السابع" الماتعة تلقيت مائة وتسعة عشر تعليقاً عن المقال الذى كان معنوناً بتحليل الخطاب السلفى، بخلاف الرسائل التى جاءتنى شبه مفخخة عبر بريدى الإلكترونى، ومنذ ذلك الوقت وأنا ملتزم ببعض النصائح والتوجيهات التى تضمنتها التعليقات بضرورة القراءة المتعمقة فى ملامح هذا التيار الدينى.
ووسط قراءتى التى هى من مهام مهنتى وعملى لم تتوقف التصريحات المنتسبة إلى التيار السلفى الذى استطاع فى فترة وجيزة عقب الثورة الميدانية بالتحرير أن يعلو فوق شعارات جماعة الإخوان المسلمين التى كانت محظورة منذ شهور.. وتتصاعد حدة التصريحات الصادرة عن بعض المتحدثين باسم السلفيين بعد المظاهرة الألفية أمام دار الإفتاء ومشيخة الأزهر الشريف للمطالبة بإقالة الدكتور المستنير على جمعة مفتى الديار المصرية لموقفه من النقاب، وفتواه التى أرسلت إلى المحكمة الإدارية بأن النقاب عادة وليس عبادة.
ولست بصدد البحث عن مشروعية النقاب من عدمها، بل إن ظاهرة العادة والعبادة نفسها تتطلب التأويل وإعمال العقل والتفكير فى استشراف مستقبلنا الذى قد لا ينبئ بخير أو بجديد، فبين منتقبات يرتدين النقاب دون سند أو نص صريح يعللن به فقه الارتداء، وبين تشريعات وقرارات إدارية تجيز وتبيح حظر ارتدائه يقف المجتمع فى حالة هلع وارتباك حول قيمه ومعتقداته وأفكاره، ويبحث عن مسكنات جديدة تجعله مغيباً طول الوقت.
ولعل تظاهرة النقاب الجمعة الماضى جاءت فرصة سانحة وطيبة لبعض نجوم الفضائيات الفراغية، وصار كل واحد منهم سوبر ستار لدى مشاهديه، فصار هذا يدلل على أن ارتداء النقاب هو شرط دخول الجنة، وأصبح هذا يؤكد أن منع النقاب جريمة تنافى القيم والتقاليد الإسلامية، وذهب ثالث بدلاً من يعرض لنا أسس تنمية الوطن والتفكير للمستقبل ذهب بعيداً إلى الهجوم على الدولة ومؤسساتها بدعوى أنها تجبر المنتقبات على الانزلاق فى الرذيلة والخطيئة، وتجاوز رابع فأخذ يندد بدول أوروبا الملحدة والكافرة والسافرة والفاجرة التى أصدرت قوانين تحظر ارتداءه، وهكذا صار الموضوع لهم مصدر رزق ومزايدة.
أما هنا ـ فى مصر ـ فالأمر مختلف تماماً ـ فكان علينا فى البدء بعدم تقزيم أنفسنا، أى مناقشة أمورنا الاجتماعية بشىء من التصغير والامتهان، فماذا لو ارتدت المرأة نقاباً مادامت تلتزم بقواعد وآليات المجتمع أو العمل الإدارى مثلاً، ومادامت ملتزمة داخل جدران المؤسسة التعليمية التى تدرس أو تعمل بها.. وماذا لو أننا على الجانب الآخر بصّرنا أخواتنا المسلمات بظاهرة النقاب وأنه فضيلة أكثر منها فريضة، وأن الحجاب هو الزى الإسلامى الشرعى الذى جاء فى القرآن الكريم دستور المسلمين فى شتى بقاع الأرض.
ولم يعد لنا حق الرد على التظاهرات التى تتعلق بأمور عباداتنا وشعائرنا الدينية فى القطر المصرى مادمنا فى حيرة من أمرنا، ولا نزال نصدّر للغرب الأسلحة الضارية التى يهاجموننا بها وبعد ذلك نكيل لهم التهم والجرائم.
وكفى بالمرء علماً أن يخشى ربه، فيفكر فى مستقبل أمته، وكيف يرتقى بها، لا أن يجد نفسه خاوياً من أى تجديد فيهرع إلى شغل وقته وإزهاق جهده وقوته فى مساجلات لا تسمن ولا تغنى من جوع، وستكتشف المنتقبات والمحجبات والسافرات عند تخرجهن أنهن بلا ثقافة، وبلا علم، وبلا فقه يسيرن به حياتهن، وأخيراً بلا نقاب أو حجاب، فربما يأتى نهار علينا نناقش فيه حظر دراسة علوم اللغة بحجة التواصل مع الآخر، وأن نعتمد كلياً على ثقافة الإنترنت فى تداول المعرفة الأكاديمية بدلاً من ثقافة الكتاب الذى لم يعد له رسوخ كما كان من قبل، والنتيجة بالطبع خريج عاطل يعانى من فراغ معرفى، وبطالة فكرية.
وعجيب أننا أصبحنا ننافس أنفسنا فى التشدق بكلمات المواطنة وحقوق الآخر والتنوير والاستنارة والحرية الفردية والجماعية، ورغم ذلك نسقط سقوطاً هائلاً فى الحوار والنقاش بشأن قضايانا الداخلية والأدلة على ذلك كثيرة ومتنوعة منها أحذية مجلس الشعب العام الماضى، مروراً بالرصاص الذى وجه إلى المعتصمين بالميدان التاريخى، انتهاء بالألفاظ والكلمات النابية والتى باتت من ضروريات الحوار.
ولى حق السؤال: هل ارتداء النقاب داخل الجامعات المصرية سيجعل خريجاتها فى قوة وعلم ومتانة وحجة بنت الشاطئ؟ أتمنى ذلك، ولو كان هذا شرطاً للتفوق والنبوغ بل والفضيلة الأخلاقية المطلقة لقمت بإجبار كل النساء بعائلتى لارتداء النقاب.
وهل فى منعه ارتقاء بمستوى الثقافة الجامعية؟ وأظن أن الثقافة بوجه عام أصبحت فى خبر كان وأخواتها ويكفينا الخروج المهين لفاروق حسنى مهزوماً، وزير الثقافة المصرى الأسبق، من انتخابات مدير عام منظمة اليونسكو المعنية بالثقافة فى العالم.. أما الثقافة فى الجامعات فإذا كنت تعانى من الفراغ ولا تعرف كيف تقضى عليه فأبلغنى بذلك حتى أسرد وأروى وأحكى لك قصصاً عن الثقافة فى الجامعات أساتذة وطلاباً.
وهل فى منعه بالجامعات البعيدة عن التصنيف العالمى سننافس جامعات تل أبيب وماليزيا والإمارات وقطر؟ وهل لو أصدر المفتى بعد قليل وتحت ضغط التظاهرات الأسبوعية ـ وهذا واردـ بياناً آخر يعلن فيه رجوعه عن رأيه الشرعى فى مشروعية النقاب، سينتهى الأمر عند هذا الحد؟ أم أننا سندخل فى سلسلة من التساؤلات الفقهية التى لا ولن تنتهى؟ ووسط هذا الجدل الفقهى بين المتمسكات بالنقاب ومن حولهن من رجال، وبين من يريدونها دولة مدنية بدأت المعارف تقفز داخل ذاكرتى التى أحمد الله عليها لكى أسترجع ملامح ومعالم الإسلام فى جوهره الخارجى وتكوينه الداخلى، لأقف على حدود صورة المسلم والمسلمة الذى ينبغى أن يكون، وينبغى أن تصير عليه.
فمن أبرز أهداف الإسلام تكوين شخصية المسلم السليمة، التى تتسم بالتوازن والاعتدال والوسطية، وذلك بإشعاره بأن الله قد كرمه بحمل رسالة الإسلام الخالدة، وأنه مأمور بأن ينطلق من هذا الشعور ليكون داعية خير حيثما كان، وحرباً على الشر حيثما وجد، عن طريق إمداده بالقيم الموجهة للسلوك والضابطة له، والتى تساعده فى الانفتاح على العالم الخارجى واستيعاب معطياته.
والإسلام فى تربيته للإنسان لا يقنع بإعداده لعالم الضرورة والواقع، وإنما يلبى الفطرة الإنسانية فى تطلعها إلى عالم الجمال والوجدان، فالإنسان لا يكتفى بالنظر إلى الجبال على أنها مجرد جبال، وإنما يبصر الجانب الجمالى فيها عندما تكون مكسوة بالثلج، وهو لا يكتفى بالنظر إلى السحاب على أنه حامل للماء، ولكنه يراه جميلاً فى أشكاله وألوانه، وخاصة عندما ينتشر عليه فى بعض الأحيان طيف الشمس فى منظر رائع جميل، وهو لا يقف بالنسبة للنبات عند حد وظيفته المعروفة، ولكنه ينفعل به عندما يورق ويزدهر.
والأمر بجد غريب وعجيب، فمادام المنتقبات يرتدين نقابهن وهن سعداء ومطمئنات بذلك، فلماذا يغضبهن رأى المفتى الشرعى، وهل رأيه هو الذى سيهدم كل معتقداتهن حول النقاب، ولا شك أن رأى العالم المستنير على جمعة قد استقاه من مصادر فقهية ونصوص إسلامية لا يراودها اللغط والغموض، والغريب أننى لم أر فى جمع الغضب والرحيل والإصرار والصمود والاحتفال امرأة واحدة تمسك ميكروفوناً تهتف بإسقاط النظام والحكومة ورموز الفساد، إذن فهن لم يشاركونا لحظات تاريخية قررنا فيها أن نحسم تاريخنا القادم بأيدينا، فكن مشغولات بأمرهن وحدهن، وكنا مهمومين بوطننا الذى لن نغادره إلا وهو فى أبهى صورة.
نحن فى خطب جلل من أمرنا، فهنا فرق إسلامية متعددة بين سلفيين وإخوان وجماعات إسلامية، وعلى الشاطئ الآخر أقباط تحلم بالعيش فى وطن يتسم بالشراكة، والأكثرية فى المنتصف يرتقبون معالم لخريطة المستقبل، وطن يستعد لرئيس جديد، ووطن يرنو نحو تعليم يجعله بمصاف الأوائل، ووطن يتمنى ثقافة ترسخ فيه قيم الثورة والقوة وعدم الانصياع الأعمى لفرد أو لفئة.. أين أنت وسط هؤلاء؟
• أكاديمى مصرى
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة