كانت الصدفة هى العامل الرئيسى فى كل ما حدث له خلال هذه الفترة.. فعندما وقعت عيناه على عينيها أحس بجاذبية من نوع مختلف.. شعر أنه لأول مرة يرى نوراً حقيقياً.. لم يكن نور الإيمان الدينى، لكنه كان نور الإيمان الطاهر والقلب النقى.. كان ينتظرها هى بالذات لتملأ عليه حياته التى كانت خاوية بعد أن ترك حبيبته الأولى.
جمعتهما الأقدار فى مكان واحد، حيث اشتركا سوياً فى إعداد مشروع بحثى.. وكان يشعر أن تلك هى أفضل الأوقات للتقرب منها والتعرف على معدنها الحقيقى وفهمهما العميق والمتهور أحياناً للحياة.. شعر بإحساس غريب تجاهها.. لم يكن حياً وإنما كان إحساساً بالارتياح فقط والرغبة فى الحديث أكثر وأكثر، رغم أنه كان يدرك جيداً أن تلك المشاعر هى الإرهاصات الأولى للحب.
استغل كل فرصة ليتقرب منها.. أحس بمتعة غريبة فى الاستماع إليها فى كل ما تقول على الرغم من اختلافه معها فى كثير من آرائها، إلا أنه كان يفضل الاستماع لصوتها الخلاب ودلعها اللاإرادى المعهود الذى ينطلق بنغمات خلابة مع كل كلمة تنطق بها.
كانت هى من النوع الفضفاض الذى يتميز بطيبة غير عادية فى التعامل مع بنى البشر حيث صرحت له بالعديد من أسرارها التى تكنها فى حياتها وصارحته بعلاقاتها السابقة وكيف انخدعت فى اناس كانت تعتبرهم أقرب إليها من حبل الوريد.. وكانت تتميز بانفتاح عقلى ونمط متميز فى التفكير بصرف النظر عن اتفاقه أو اختلافه معها إلا أنها كانت متميزة ولها رأى ثابت وكانت أيضاً تجد صعوبة فى تقبل وجهة النظر الأخرى إلا أنها كانت تتقبلها فى حال اقتناعها بها وهذه كانت مهمة شاقة.
كان يقرأ ذات مرة فى أحد الدراسات المتعلقة بالمعادن الطبيعة وكيفية انجذابها لبعضها ووقعت عيناه على جملة تقول "أن المعادن المتناقضة تتجاذب.. والمتشابهة تتنافر"، فقفز إلى ذهنه مباشرة علاقته بها فهم مختلفان كثيراً فى طريقة تفكيرهما ومختلفان كثيراً فى رؤيتهما للحياة وكيفية التعامل معها بكل ما تحويه من خير أو شر.. وهنا أدرك أنه على الرغم من اختلافهما فإنهما قد يتجاذبا بحكم القاعدة العلمية القاضية بأن المتناقضات تتجاذب، لكنه عاد وقال إن هذا المنطق ينطبق على المعادن الطبيعية وليس على البشر.. إلا أنه بعد فترة كان يقرأ رواية لأحد الكتاب البرازيليين ووقعت عيناه على جملة تقول "يولد الحب من طبيعتين متناقضتين.. وفى التناقض ينمو الحب بقوة.. وفى التصادم والتحول يُحفظ الحب" فعاد على التفكير فى الأمر من جديد واستشهد تلك المرة بإحساسه تجاهها ووجد أنه فعلاً يميل إليها ويرغب أن يحادثها دائماً.
جمعتهما الصدفة مرة أخرى بعد ذلك حيث سافر هو خارج البلاد لإكمال بحث علمى عن تحول المعادن والأطوار التى تمر بها من أجل الوصول لذلك التحول وما هى الظروف التى يجب أن تتوافر لإحداث هذا التحول.. ولكنه قابلها فى تلك الدولة بالصدفة، حيث كانت تكمل دراستها الجامعية للحصول على شهادة الماجستير فى علم الأديان المقارنة.
تقابلا أكثر من مرة وكانا أقرب لبعض من أنفسهما وكان يسهران سوياً ويخرجان سوياً ويضحكان ويأكلان معاً.. مما أدى إلى اقترابهما كثيراً من بعضهما وأحس فى ذلك الوقت أنه يحبها وقرر أن يصارحها ولكنه كان فى حيرة من أمره لا يدرى ماذا يفعل فهو يدرك جيداً مدى المعاناة التى قد يعانيها إذا افترقا عن بعضهما البعض كما أنه يدرك أيضاً مدى الألم الذى سيسببه لها إذا لم يفى بوعوده لها وكان أهون عليه ألا يصارحها بحبه حتى لا يخسرها كصديقة جيدة.. ولكنه فى ظل تلك الظروف نطق بهذه الكلمة وبشكل لا إرادى وصارحها بأنه يحبها وكان رد فعلها غير متوقعا بالنسبة إليه لإنها بدون أن تنطق ببنت شفاه بكت.. وكان بكائها صاعقة بالنسبة إليه حيث كان يسعى بشتى الطرق حتى لا يرى تلك الدموع التى كان يعتبرها أغلى من كل تلك الحياة.. وعندما هدأت قالت له بعد ذلك أنها تدرك أنه يحبها وأنها تبادله نفس الشعور ولكن ليس بنفس المقدار كما أن اختلافهما لن يسمح لهما بالتعايش سوياً وهنا أدرك أنه أخطأ عندما نطق بتلك الكلمة.
قرر هو بعد ذلك أن يعطى نفسه وقت أطول للتفكير فى الأمر بعد أن عاد إلى وطنه وانتهى من إعداد بحثه العلمي، وبعد فترة أدرك أنه لا يشتاق إليها وإن كان يرغب فى التحدث معها.. ومع مرور الوقت وانشغاله فى عمله الصعب وانغماسه فى أمور المعادن التى كان يعطيها أكبر وقته بالإضافة إلى أصدقائه وأهله الذين ملأوا عليه حياته من جديد.. توصل إلى تحليل منطقى حيث تأكد ان الغربة خارج البلاد تجعل الإنسان يتعلق بما يجده أمامه فتوصل إلى أنها كانت تملأ عليه حياته لعدم وجود سبيل آخر لذلك فكانت تشغل الحيز الذى يشغله أصدقائه وأهله.. لكنه عندما عاد لأهله وأصدقائه قام كل منهم بشغل الحيز الخاص بهم، وبالتالى دورها تقلص بشكل كبير.. وهو ما دفعه للندم على مصارحته لها بمشاعره، لأنها غير حقيقية وحاول أن يحافظ على ذلك سراً حتى لا يجرح مشاعرها حتى وإن كانت لا تحبه وتأكد من تلك اللحظة أن الإحساس الذى شعر به لم يكن سوى مجرد إعجاب!
