أقسم– غير حانث– أن الغرض ليس التقليل من شأن "الأسياد"، فالزمن يدور حول نفسه تماماً مثل حلقة "الزار"، والدفوف تدق بلا توقف، والناس داخت وشاخت، والجنازة بالفعل حارة، ولكن الميت ليس كلباً...
قال العارف الزاهد وهو يحاورنى: "دع الملك للمالك، وإلا فأنت هالك"، فقلت له متبسماً:"لا تحسبن الشحم فإنه ورم، والهزل يا سيدى بعضه ألم".. هش بعصاه، وتنشق السعوط ثم انكمش وانفرد عاطساً، مسح منخاره وانصرف عنى وهو يؤرجح رأسه يمنة ويسرة متمتماً فى حماس: "حى.. حى.. نجنا مما نخاف، نجنا مما نخاف"...
ربما "الخوف" هو الكلمة المفتاح، فهل هو الخوف فعلاً؟.. يقال:
"هذا رجل يخشى من ظله"، كتعبير عن المبالغة فى الخوف، ولا أدرى إذا كان هناك لهذا القول المأثور مثيلاً فى الثقافات الأخرى، أتذكر هنا مثلاً ما قاله الرئيس الأمريكى فرانكلين روزفلت عام 1933: "أن الشىء الوحيد الذى ينبغى أن نخاف منه هو الخوف نفسه، ذلك الرعب المجهول غير المعقول وغير المبرر الذى يشل القدرة على تحويل التراجع إلى تقدم"، كما أننى أذكر المثل الألمانى الذى يقول: "إن الخوف يجعل الكلب يبدو أكبر من حجمه"..
أستطيع أن أقرر من خلال تجربة الدم والبارود أن الشجاعة ليست فى انعدام الخوف، بل فى المقدرة على التغلب عليه، فالإنسان يخاف من الظلام، من المجهول، من الموت، ولكنه يغالب هذا الخوف كى يستمر فى الحياة، فلديه دائماً كمية الضوء الكافى فى أعماقه كى يبدد الظلام المحيط، ولديه الرغبة الجارفة فى الحياة التى تقاوم فكرة الموت، ولديه بحار الثقافة والمعرفة يبحر فيها لاكتشاف قارات المجهول.
يمكن أيضاً أن نتفق على أن الإنسان وحده قد يكون فريسة سهلة لوحش الخوف، ولكنه فى إطار الجماعة البشرية يتعلم على الأقل كيفية ترويض هذا الوحش، ولكن المشكلة تتعقد عندما يتمكن الخوف من الجماعة ويسيطر عليها، وهنا يتطلب الأمر بروز القائد العاقل الشجاع، مثلما يتطلب الأمر حكمة الملاح وثبات أعصابه فى مواجهة الأعاصير والأمواج وبين صراخ ركاب سفينة تتعرض للغرق.
وتمثل النخب السياسية والاقتصادية والثقافية فى المجتمعات البشرية ما يمثله الملاح فى المثل السابق، فهى التى تحمل على كتفيها مسئولية القيادة والتوجيه، هى التى تقدم القدوة والتضحية كى تجتاز بمجتمعاتها مواطن الأخطار والمحن، ولكن ما هو الحال إذا كانت تلك النخب أشد خوفاً من مجتمعاتها؟.. الإجابة المباشرة هى أن المجتمع يغرق.
ولعل الإجابة الصحيحة تتطلب ما هو أكثر من تلك الإجابة المباشرة، فمن المهم مثلاً تحديد وتعريف "النخب"، فهل هى تلك الشريحة السياسية التى تتولى سلطات الدولة المختلفة؟، أم أنها تلك الشريحة التى تسيطر على الحياة الاقتصادية، أم أنها كوكبة الأدباء والفنانين والمفكرين بمختلف مشاربهم؟
يمكننا تعريف النخبة (Elite) بأنها تلك المجموعة المختارة التى تعتبر الأفضل والأكثر احتراماً، فهم يمثلون تلك الشريحة التى تعد الأفضل اجتماعياً سواء بسبب وضعهم الاجتماعى فى سلم السلطة أو الثروة أو الثقافة، ويكون لديهم تأثير فى الآخرين...
ويلاحظ بداية أن هذا التعريف – المتفق عليه– يعوزه تعاريف أخرى، فما هو معيار "الأفضل"، وما هو المقياس الكمى والنوعى للتأثير المتوقع؟، وللتبسيط نكتفى بأن نستعين بالعادات والتقاليد التى يكون معيار "الأفضل" لديها هو "المتبوع" أى الذى يتبعه آخرون، ويكون المقياس الكمى هو العدد الذى يتأثر بهذا الاتباع، ويكون المقياس النوعى هو الأثر الإيجابى الذى يحدثه هذا الاتباع على حياة التابعين.
وبعد كل هذا الاعتساف النظرى، يبقى السؤال فى نطاق الخوف:
"ما هو الحال إذا كانت تلك النخبة بالتعريف السابق أشد خوفاً من المجتمع البشرى الذى تعيش فيه"؟ وأتصور أنهم فى هذه الحالة، ووفقاً للتعريف لا يستحقون صفة "النخبة"، لأنهم لا يمتلكون – بداهة – القدرة على تقديم النموذج الذى يستحق الاتباع، كما أن المقياس الكمى يتراجع حيث لن يتبعهم أو يثق فيهم أحد، ومن الواضح أن أثرهم الإيجابى منعدم.
ولكن العارف الزاهد يدور بمبخرته ويتساءل: "أين نضع أولئك القوادم فى السياسة والاقتصاد والثقافة؟، وإذا لم يكونوا هم النخب، فمن ذا يكون؟.. وهو سؤال محير فعلاً، فهؤلاء المتصدرون لأمور السياسة والاقتصاد والثقافة يملأون عين الشمس، وهم فى كل واد يهيمون، فى البيئة وتغير المناخ يتحدثون، وفى أزمة السكن ينصحون، وفى مباريات كرة القدم يتحذلقون، أنهم ليل نهار يملأون الفراغ، وفتاواهم لا تنقطع، وشجارهم متواصل، والموضوعات بالفعل حيوية وهامة، أى أنهم يمثلون نخبة بشكل ما، فكيف لا ينطبق عليهم التعريف الكامل؟ والسؤال الأهم هو: من هم؟...
هل هم عفاريت تسكن الجسد الاجتماعى، وبالتالى يكون البحث عن زار لصرفهم هو الحيلة الوحيدة الناجعة؟، وبافتراض التخلص منهم، من يملأ الفراغ بعدهم؟، هل يصح لمجتمع أن يعيش بلا نخب، وهل يمكن تصور سفينة فى وسط البحر بلا ملاح؟..
أبادر بالقول بأنه لا يبدو حل لهذه الإشكالية سوى بالتسليم أولاً بأن تلك الشرائح المعنية لا يمكن اعتبارها نخباً، بدليل أن وجودهم مثل عدمه لا يؤثر بشكل إيجابى فى المجتمع البشرى، وربما ينحصر الأثر فى الجانب السلبى وأبرزه توهم وجود النخبة، تماماً مثلما يتوهم ركاب سفينة فى عرض البحر أن هناك رباناً فى كابينة القيادة الخالية..
ومن ناحية أخرى يصعب أن نتصور خلو أى جماعة بشرية من أفراد تتصف بالصفات النخبوية الحقيقية، ولابد أنهم موجودون فى مواقع أخرى أى أنهم ليسوا فى كابينة القيادة، أو أن مواقع النخب تم اختطافها بأشباه نخبوية، أو هبطوا على تلك المواقع بالباراشوت، تماماً مثلما يقوم مجموعة من القراصنة باختطاف سفينة فى البحر وتوجيهها وجهة أخرى غير وجهتها.
وقد يكون من المهم أن يدرك الكافة أن "صرف" تلك العفاريت من الجسد الاجتماعى لن يتم باستخدام الزار أو كافة تعاويذ الخرافة، بل من خلال استعادة النخب الأصلية لمواقعها المحتلة، والمسألة هنا لم تعد اختياراً بل ضرورة، وكما يقال "الضرورات تبيح المحظورات"، والخوف هو إحدى هذه المحظورات، فقد آن الأوان للنخب الأصيلة أن تنتفض وتمارس واجباتها لإنقاذ المجتمع من تلك الشرائح التى حصنت مراكز قوتها المزيفة، والخطوة الأولى هى نزع الخوف من القلوب والعقول، من خلال تقديم القدوة فى القدرة على المواجهة ودفع الثمن، لأن تلك الكائنات التى هبطت بالباراشوت لن تتخلى عن المواقع التى استولت عليها بسهولة، ولأنها تتقمص دور النخب فيمكنها خداع البسطاء وتشويه النخب الأصلية، إلا أن كسر حاجز الخوف سوف يفسح الطريق للطوفان..
انتفض العارف الزاهد ثائراً ومهدداً باستدعاء الأسياد، مؤكداً أن من خاف سلم، وأن كسر الخوف يؤدى إلى الفوضى والخراب، وأن ما يعرف خير ألف مرة مما يجهل، وأن التسليم بالقضاء والقدر إيمان والاعتراض عليه كفر بواح، ثم غمس ريشته فى محبرته وطفق يكتب تقريراً سرياً كى يرفعه إلى عتبات الأسياد...
توجست خيفة، لكننى تذكرت مقولة روزفلت، ما ينبغى أن نخاف منه هو الخوف نفسه، وتأملت فى سيرة الأمم الناهضة، واسترجعت شهادة الرومى لعمر:"حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر"، واستجمعت ذكريات الدم والبارود كى أردد فى حسم: الشجاعة ليست فى انعدام الخوف، وإنما فى المقدرة على التغلب عليه، حتى نرى الكلب فى حجمه الطبيعى.
• عضو اتحاد الكتاب المصرى
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة