يبدو أن «المسألة الأمنية» فى مصر باتت عصية على الحل، فكل يوم نفاجأ بكارثة أمنية.. بلطجية يقتحمون أقسام الشرطة فى وضح النهار مدججين بالأسلحة، لاختطاف أحد المحتجزين، مساجين يشعلون النار فى السجن ويقتلون الحرس ويهربون، كتيبة مسلحة من عائلة واحدة تداهم محكمة فى سيناء لتأخذ المتهم من القفص، فعندما تتأخر عن إدراكه فى القفص تمتطى سياراتها الخاصة وتطارد عربة الترحيلات بوابل من الرصاص من مدافع رشاشة، إلى أن تدركها فتأخذ المتهم تاجر المخدرات وتلوذ بالفرار، وفيما أنا أكتب هذه السطور جاءت الأخبار بأن أكثر من سجن قد أشعلت فيه النيران وهرب المساجين، وأكثر من قسم شرطة تعرض لهجوم مسلح من بلطجية، كل ذلك فى آن واحد، مما يشى بأنها عملية منظمة مرتبة مخطط لها، لا يمكن أن تكون عشوائية أو على سبيل المصادفة، وأبسط الناس عقلاً يدرك هذا.
إذن، فقد صار من الواضح -دون شك- أن «الأمن» الآن هو «الرجل المريض» فى مصر الثورة، وإنه لمرض فتاك وسريع العدوى مثل الكوليرا والطاعون. خطورته أنه ليس يهدد الثورة المصرية فحسب، ولا تتوقف خطورته عند تدمير المجتمع وتفكيك منظومته الأخلاقية والعقائدية والأسرية والتقاليدية التى شقيت مصر على طول التاريخ فى نظمها وتأسيسها، بل تمتد خطورته إلى إبادة الشعب والقضاء على دولة عاشت سبعة آلاف عام تبهر العالم وتنير الدنيا بمصابيح المحبة والسلام والإبداع.
إنها حقاً لمحنة! فحيث أمضينا الشهور القليلة السابقة مفعمين بالأمل فى نزول الشرطة إلى مواقعها لحماية الأمن العام حتى تستتب الأوضاع وتعود الحياة إلى البلاد، إذ بالشرطة نفسها عاجزة عن حماية نفسها، لأن هناك من هو «أحرف» منها فى العمل الشرطوى ويعرف كيف وأين يضربها فى مقتل لتبقى عاجزة حتى تتوقف الحياة تماماً فى مصر!
فماذا يكون الحل إذن؟
لقد ثبت يقينا أن جهاز الشرطة بوضعه الحالى سيكون أعجز من أن يؤمّن انتخابات برلمانية وأخرى رئاسية حتى إن استعان بالشرطة العسكرية.
ذلك أن الانتخابات هذه المرة ليست كأى انتخابات سابقة، فقبل الثورة كانت ميليشيات الحزب الوطنى تنزل بثقلها لقهر الناخبين، واستخدام كل أساليب القوة الرخيصة لتأمين عملية التزوير، واستبدال الصناديق، وسحق المعارضين، لتنتهى العملية فى النهاية بفوز الحزب الوطنى، فيرتد بقية المرشحين على أعقابهم مغلوبين على أمورهم، وليس ثمة من حيلة أمامهم سوى الطعن أمام المحاكم التى تصدر أحكاماً لصالحهم، فلا يأبه لها سيد قراره ذاك العنيد المكين، أو يجأرون بالشكوى على شاشات التلفاز وعلى صفحات الصحف يقولون ما قاله أبونواس فى الخمر، ولكن لا حياة لمن تنادى، لا رئيس يقرأ أو يسمع أو يشاهد، فإن سمع كان تعليقه بالاستخفاف بما سمع، ولا أبناء دوائر يثورون لمرشحهم الذى أعطوه أصواتهم جميعاً فانضربوا على أقفيتهم وأطيح بهم وبمرشحهم.
وليس هذا بغريب، فالواقع أن الشعب المصرى فى قاعدته العريضة لم يكن يشغل باله بهذه العملية الانتخابية منذ زمن بعيد مضى، لأنه موقن من كذبها وتلفيقها، ومن ثم لا يعنيه من فاز ومن رسب، بل لم يكن يعنيه أن يحكمه زيد أو عبيد، ولعله لم يشغل نفسه بهذا إلا فى فترة محدودة من حكم عبدالناصر، إنما هو فى النهاية- الشعب- قادر على تسليك أموره مع من يعتلى الأريكة، إنه شعب «عُقْدة»، لم يفلح التاريخ فى فك خيوطها، ومن يزعم أنه يفهمه يضحك على نفسه، فليس يفهمه إلا من قرأ وعاش فولكلوره، وغاص فى مواويله وأغنياته وحواديته وملاحمه الشعبية الساحرة.
أما الانتخابات هذه المرة فسوف تكون ملحمة بمعنى الكلمة.. لقد انفك سحر القمقم فانكسر، فخرج المارد مخيفا وجلفا، وفى غاية الخشونة يريد أن يمارس حريته ويسترد حقوقه بأثر رجعى، الآن وفوراً، لا وقت عنده للتفاهم، بل لا صبر على استيعاب سخافات كالديمقراطية والليبرالية واليسارية والثيوقراطية، ومدنية وطنية أو مدنية بمرجعية إسلامية.
إنه من الأساس فاقد للثقة فى كل الأطروحات التى برغم قِدمها فى الإعلام المصرى لم تصل إليه، ولن تصل كل مظالم العقود الزمنية السابقة، وسواد المراحل وما عاناه أغلقت أذنه وعقله عن كلام المثقفين الذين طالما ضللوه ومجّدوا فى جلاديه.
هو الآن مارد مشحون بطاقة عصبية متوفزة مستنفرة، كل ما ناله من ذل وهوان طوال ستين عاماً لم يشعر بوجعه إلا اليوم فحسب، ولسوف يندفع لتخليص ثأره كطوفان يتحدى الجنون، أنصار القيادات الدينية -معتدلة كانت أو متطرفة- ليسوا وحدهم المتحفزين للقتال لإنجاح مرشحيهم، إنما هناك تيارات ذات تاريخ متجذر فى أرض مصر، وأخرى استحدثتها الثورة.. شخصيات غير تقليدية، غير مألوفة، ستدخل اللعبة فى مواجهة شخصيات كلاسيكية عتيقة محترفة، أما الترشح للرئاسة فقد أنذر بمسرحية هزلية من العيار الأسود الثقيل، شخصيات لا فى العير ولا فى النفير، لم يسمع بها أحد على الإطلاق تدعو الناخبين من الآن بوجوه كالحة واثقة من نفسها فى صلابة كالزلطة تشج رأسك فى كل كلمة إن قللت عقلك ودخلت معها فى حوار.
جميع هؤلاء وأولئك، مرشحين وناخبين، سيمارسون حقهم الانتخابى «منفوخين» بنعرة الثورة، بفهم خاطئ لمعنى الحرية والديمقراطية، الأخطر من ذلك أنهم نبذوا الخوف ليس فحسب من الشرطة، بل من جميع الرؤوس العليا فى السلطة، لاسيما أن إعلامنا الردىء قد زرع فى الدركات السفلية للمجتمع غوغائية سياسية معزولة وجاهلة ومدرعة بالوقاحة والعنف.
معنى ذلك أننا محتاجون، الآن وفوراً، إلى جهاز شرطة بإمكانيات استثنائية لتوقف هذه الفوضى الأمنية قبل أن ندفن جميعا تحت الأنقاض، فهل هذا ممكن؟ أم إنه فى ظل هذه الحكومة الناعمة المسالمة أضغاث أحلام؟
عدد الردود 0
بواسطة:
بيتر إميل
فلنحمي ثورتنا
عدد الردود 0
بواسطة:
قارئ
للأستاذ الجليل خيري شلبي
عدد الردود 0
بواسطة:
مصرية جدا
مقال رائع وتعليقات أروع (تعليقات من 1 الى 4) المنشورة حتى الآن