السمّاح عبد الله يكتب: رأيت أمل دنقل

الثلاثاء، 31 مايو 2011 07:18 م
السمّاح عبد الله يكتب: رأيت أمل دنقل

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
فى بداية الثمانينيات هبطت إلى القاهرة شابا صغيرا يحمل سبعة عشر عاما ودفتر أشعار وحقيبة ملأى بالأحلام الكبار، أنبئت أننى سأكون ضيفا على الشاعر الكبير فاروق شوشة فى برنامجه الشهير "أمسية ثقافية" بالتليفزيون، فتحت دفتر أشعارى وبدأت أنتقى القصيدة التى لابد وأن فاروق شوشة سيطلب منى إلقاءها فى البرنامج ووقع اختيارى على قصيدة "رعشة الرغبة المستحيلة"، والتى كتبتها فى محبة الزعيم الخالد جمال عبد الناصر لمناسبة مرور عشر سنوات على رحيله، والذى كنت واقعا فى أسر حبه تلك الفترة، كانت القصيدة طويلة بعض الشىء وكان على اقتطاع أجزاء منها.

فى صباح اليوم التالى، وبدون أية مقدمات قررت رؤية أمل دنقل، لم تكن معرفتى بجغرافية القاهرة تتيح لى الذهاب من الجيزة إلى معهد السرطان حيث يقطن أمل دنقل إحدى غرفه، فى موقف الأوتوبيسات بميدان الجيزة سألت أحد الرجال المتجهمين ومن فرط جهامته لم يرد على سؤالى، التقطت السؤال إحدى الواقفات، لم تكن متجهمة، كانت لسبب ما فرحة، التفتت إلى وقالت:
- تعال معى، أنا ذاهبة لمعهد السرطان، فى مقعد الأتوبيس تجاورنا وبدأنا الكلام.
قالت إنها ذاهبة لزيارة جدتها، كل الأطباء أكدوا لهم أنها مائتة لا محالة، إن هى إلا حسبة أيام قليلة، وأضافت:
- إن ماتت سترتاح.
وعندما عرفت أننى شاعر، يبدو أنها لم تفهم، غير أنها علقت على اسمى الذى يشيع أكثر بين النساء، وفجأة سألتنى:
- لم أنت ذاهب لمعهد السرطان؟
أجبتها:
- سأزور الشاعر الكبير أمل دنقل.
علقت بشىء من المرح:
- يبدو أن رجال عائلتكم يحملون أسماء نسائية
صححت لها افتراضها الخاطىء:
- أمل دنقل ليس من عائلتنا.
وأضافت:
- ثم إن عائلتنا فيها أسماء رجالية كثيرة مثل عبد الله والأنور وإسماعيل وفواز وأبو الفضل وأحمد والسيد وغيرها كثير.
-
صمتنا فترة، ومع إحدى الانحناءات الدائرية للأتوبيس أخبرتنى أن زوج عمتها عازف جيتار وتستطيع أن تتوسط بيننا لكى يعرض قصائدى على بعض معارفه من المطربين والمطربات أمثال عماد عبد الحليم وعايدة الشاعر وهانى شاكر وغيرهم، أخبرتها أننى أفضل فايزة أحمد.
قالت:
- سأحاول معه.
فى معهد السرطان سألت عن غرفة الشاعر أمل دنقل ، كانت أشهر غرفة فى المعهد كله، لكن رجال الأمن نصحونى بالانتظار على الأقل ساعتين حتى يحين موعد الزيارة، فكرت أن أنسب وقت لمقابلته هو الآن قبل أن يحين حين الزيارة الرسمى وتمتلىء الغرفة بالزوار.
استطعت التسلل بعيدا عن عيون المراقبين، وخلسة دلفت إلى دهليز يوصل لغرفته، كان الباب مغلقا، وكان ثمة صمت، طرقت الباب فجاءنى الصوت:
- ادخل.
فتحت الباب ودخلت، وأنا أدخل كان أمل دنقل يحاول على عجالة ارتداء طاقية رمادية، لكننى استطعت أن أتبين أن رأسه بلا شعر تقريبا، كان نحيلا جدا، وأظن أن شعر حاجبيه أيضا كان قد سقط، وتكسرت كل الكلمات فى جوفى، تسمرت فى مكانى وأنا أعاين جسده النحيل، ويبدو أن صمتى قد طال لأنه فاجأنى بصوت أقرب إلى الغلظة:
- ماذا تريد؟
كل ما قلته إننى أبحث عن غرفة إبراهيم حسان وأتساءل إن كانت هذه هى غرفته.
بنفس غلظته ونفس جهامة رجل موقف الأتوبيس فى ميدان الجيزة، أجابنى وهو يلتفت إلى الجهة الأخرى من الغرفة:
- لا
هل اعتذرت له، هل تمتمت بأى شىء، وأنا أغادر الغرفة؟
لا أذكر
كل ما أذكره أننى عدت أدراجى مرة أخرى، وفى كل خطوة كنت أتهم نفسى بعدم الشجاعة تارة وعدم القدرة على تجميع الكلمات تارة أخرى، لكن الأكيد أن الرعب كان يملأنى على حالة هذا الشاعر الكبير.

فى البهو لقيت فتاة الأتوبيس جالسة فى انتظار موعد الزيارة، عندما شاهدتنى أهم بمغادرة المعهد لحقت بى صائحة :
- هيه، هل ستقابل زوج عمتى ؟
بنفس غلظة أمل دنقل وجهامة رجل موقف الأتوبيس فى ميدان الجيزة، أدرت وجهى للناحية الأخرى وأجبتها :
- لا
وعدت إلى الدار.
فى الليل كتبت قصيدة اسمها "هل تعرفنى" وهى قصيدة من وحى رؤيتى لأمل دنقل.

فى هذه القصيدة قلت كل ما لم يحدث فى الزيارة الحقيقية، عرفته بنفسى وبشعرى وأقمت معه جسور الكلام، ذلك الذى تكسر على حافة فمى فادعيت أننى أخطأت الغرفة.

فى اليوم الثانى اصطحبت دفتر أشعارى وذهبت إلى التليفزيون لتسجيل حلقة من الأمسية الثقافية مع فاروق شوشة، وعندما طلب منى أن أقدم للمشاهدين نموذجا من شعرى، وبدون أن أنتبه، مررت على قصيدة جمال عبد الناصر مرور الكلام تلك التى كانت صفحتها مطوية تمهيدا لقراءتها، ووصلت إلى صفحات الدفتر وقلت:
قصيدة إلى أمل دنقل على سرير الشفاء.
حين حملتُ حقائب سفرى
وطرقت على بابك فى الليل
منزويا كنتَ تغنى للوطن المتمدد فى عينيك ووجع الأرض
وأنا خاصمت الأيام حواليك
وعشقت الركض
وفجائيّا كنتَ وكنتُ أخبّئك بكتبى
وأهاجر لأراضيك وبلدانك ليلاَ
وإلى حيث يضم الجفنان الحلم الأملاَ
وأفاجئهم بك منتصبا نخلاَ
وعنيدا كالريح الهوجاءْ
هل تعرفنى ؟
آخر عودٍ نبت بأرض الشعراءْ
ورسمتك فى كرّاساتى حقلا ونهارا
موّجتك أنهارا أوقدتك نارا نزّلتك مطرا
وتخيرتك فصلا غير جميع فصول الأعوام
تطلع أخضر كالحب
وتغنى للفقراءِ .
إلى آخر القصيدة.
ربما لم تمض سنة على إذاعة هذه الحلقة من الأمسية الثقافية إلا وكان أمل دنقل قد مات.

فى كتابها الاستثنائى بالغ العذوبة "الجنوبى" ذكرت الأديبة عبلة الروينى أن أمل دنقل شاهد هذه الحلقة من الأمسية الثقافية واستمع إلى قصيدتى وكتبت تقول:

( مددت يدى أفتح التليفزيون فى محاولة لكسر هذا الملل الخانق كان برنامج " أمسية ثقافية " للشاعر فاروق شوشة قد أوشك على الانتهاء، دعا فاروق شوشة ضيفه الشاب السمّاح عبد الله إلى تقديم قصيدته، ذكر الشاب أنها قصيدة إلى الشاعر أمل دنقل وأتمنى لو انه يستمع إلينا الآن، كدت أجن من الفرح وأنا أخاطب السمّاح عبد الله الذى لا نعرفه أمام شاشة التليفزيون:
أنت جميل .. أنت أكثر من جميل
سقط الملل وسقطت الكآبة تماما وامتلأت الغرفة بضجيج الفرح الحاد فى صوتي، بينما راح أمل دنقل فى هدوئه يهدأ من انفعالى:
يصبح فرحك أجمل داخلك، مثلما يصبح حزنك أنبل دون الشكوى به.
هكذا استطاعت قصيدة من شاب صغير أن تكسر كل ملامح الكآبة، وتعيد إلى أمل الهدوء والسكينة والفرح.
مرة أخرى يكون الشعر هو التوازن والبديل عن الانتحار.)

انتهى كلام عبلة الروينى، وابتدأ فرحى الخاص.
نعم، أستطيع أن أقول رأيت أمل دنقل.
بل وأضيف:
ورآنى.
لم أجرؤ على مخاطبته وتعريفه بنفسى وإسماعه شعرى فى الغرفة رقم 8 بمعهد السرطان، فخاطبته وعرفته بنفسى وأسمعته شعرى من خلال شاشة التليفزيون.
نعم
رأيت أمل دنقل.





مشاركة




التعليقات 2

عدد الردود 0

بواسطة:

جيهان بركات

لقاء أجمل

عدد الردود 0

بواسطة:

أسما عواد

انت جميل

كعادتك دوما .. الجمال لا يتجزأ يا صديقي...

اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة