محمد صبحى، من بين فنانين قلائل قادر على إمتاعك ذهنيا بمسرحياته، وإغراقك فى ضحك هادف، لاختياره مناقشة موضوعات وقضايا جادة تهم المواطن المصرى يلمس فيها عن قرب أوجاعه خلال السنوات السابقة على ثورة الخامس والعشرين من يناير، وحينما كان صبحى يتحدث لوسائل الإعلام فى عهد حسنى مبارك، كنا ننصت إليه بانتباه، ونغبطه على ثوريته المتوقدة، وحسبناه وصنفناه بين المعارضين لنظام مبارك، مرتكزين على ما طرحه من انتقادات له فى مسلسلاته ومسرحه، غير أنه دفعنا دفعا لإعادة النظر فى مسلمات تخص موقفه مما يدور من حولنا.
ففنان بوزن وتاريخ محمد صبحى لا يصح أن يمر ما يصدر عنه مرور الكرام، بل التوقف عنده، لفحصه وتدقيقه مليا، فقد أطل بتصريح أظنه غريبا وغير مفهوم، حيث قال قبل ساعات من بدء جمعة الغضب الثانية: أشعر أن الثورة تأكل بعضها لصالح أطراف أخرى، وأخشى أن تتحول المظاهرة إلى ساحة للعراك والصراع بين التيارات المختلفة. وأضاف أنه مندهش من عشرات التيارات والحركات الممتلئة بها الساحة السياسية وتزيد من الانقسام والفرقة بين صفوف المصريين.
وليأذن لى الفنان المسرحى المبدع، بإبداء اندهاشى واختلافى الشديد مع ما قاله آنفا، فنغمة التخويف من جمعة الغضب الثانية كانت زائدة عن الحد والمنطق السليم، ولا أدرى لم اختار محمد صبحى الركض خلف ترديدها، وبث الفزع فى نفوس المصريين الذين أوهمهم البعض بأن الاشتراك فيها سيهدد الوطن بخطر جلل، وأن ميدان التحرير سينقلب لمستنقع سترتع فيه الثعابين والكلاب الضالة ومعهم البلطجية وفلول الحزب الوطنى المنحل؟.
هذه الخفافيش موجودة لا ريب فى ذلك، لكنها ليست بالكم والكيف الوارد فى تقارير ومقالات من ضخموا فيها، حتى بدت وكأنها فى طريقها لالتهام مصر وثورتها، إذا شاركت الجموع الغفيرة، فالجماهير ذهبت للتحرير وتصرفت بتحضر يليق بالساعين لإيصال صوته واعتراضه على أشياء غامضة مبهمة تحدث من حولنا ولا نعثر لها على تفسير، الأكثر أنها تعاند وتخاصم طموحات الغالبية العظمى من المصريين الذين لا يريدون سوى معاقبة كل مسئول أساء لهذا البلد بحكم القانون، وإعمالا لمبدأ العدالة، وقتلة الثوار الأحرار، وفى المقدمة حسنى مبارك القابع فى مستشفاه بمنتجع شرم الشيخ، وإن كانت حدثت تجاوزات صغيرة هنا وهناك يوم جمعة الغضب الثانية، فإنها فى المحصلة النهائية هفوات وهنات لا يعتد بها ولا تعبر عن الشرائح المحترمة التى تحلت بالمسئولية، ومنعت الانفلات، وتم ذلك فى ظل غياب قوى مؤثرة وفاعلة، مثل الإخوان المسلمين الذين تضرب بهم الأمثال فى القدرة على الحشد الجماهيرى، وثبت لنا أن تلك الجماعة يجب أن توضع فى حجمها ومكانها الطبيعى، وإزالة ما بنى حولها من هالات وأساطير تعمدت نسجها وقتما كانت تطارد أمنيا وتعمل فى الظلام، واعتقادى ان الوقت كفيل بإظهار قدرها الحقيقى، عندما تتعمق قواعد الديمقراطية والانتخابات الحرة النزيهة.
وليأذن لى أيضا الفنان محمد صبحى فى عتابه، فبحكم تجربته الحياتية الطويلة وثقافته، كان عليه تفهم أن الشعوب المحرومة لعقود متتالية من إبداء مواقفها والتحدث والعمل بين الجماهير لابد أن تسعى لتعويض ما فاتها، وإنه لأمر طبيعى فى المراحل التالية للثورات الشعبية أن تكتظ الساحات بالأحزاب والتيارات الجديدة، وتبعا سوف يبقى المفيد والجاد منها ويسقط من يساير الموجة، فضلا عن أن التنوع شىء محمود وتشجيعه فرض عين، فقد مللنا من عاهة الحزب الواحد منذ قيام ثورة 1952، فلنجرب التعددية الحزبية، وبلا شك ستحدث أخطاء وزلات كلما قطعنا أشواطا على هذا المضمار، وبناء عليه ليس المطلوب الانزعاج والاندهاش، بل التقويم والمتابعة، لتصحيح المسارات والاتجاهات المعوجة، ما أود قوله أن التيارات والحركات السياسية الجديدة ظاهرة صحية يجب ألا تقلقنا وتدهشنا، وأبعث بجملة ختامية لمحمد صبحى فحواها أن الثورة لا تأكل بعضها، وأن ما نراه من اضطراب ونزاعات ليس سوى عملية تجديد مستمر لخلاياها، حتى تزيل عن جسدها الطاهر أدران وحطام 30 عاما من الجمود والترهل وسوء الإدارة، وأنها ستظل مصانة ومحمية بأجساد المصريين الشرفاء.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة