لعل من أكثر السنوات تأثيراً فى حياة كل منا هى السنة الأولى التى نستعد فيها للذهاب إلى المدرسة لأول مرة، لكى نبدأ مشوارنا فى التعليم، وبقدر ما تبدو هذه السنة بسيطة إلا أن ملامحها تبقى راسخة فى ضمير كل منا، حتى أنها تكاد لا تفارقه إلى أن يصل لمحطته الأخيرة، فى ذلك المشوار، ويرجع ذلك لما لهذه السنة من تأثيرات عميقة تأتى متلاحقة كنتيجة لجملة التغيرات الجوهرية التى تكون مصاحبة لها، يكون أولها التغيير فى أنماط الحياة.
فمن نمط اتكالى يكون للوالدين الدور الرئيسى فيه، من حماية ورعاية وتوجيه وغيرها، إلى مرحلة يكون من دواعى الأمور فيها وضروراتها الاعتماد على الذات فى قضاء كافة الاحتياجات.
هكذا يكون حالنا فى هذه الأيام، وكأننا نستعد للذهاب إلى المدرسة لأول مرة، إلا أن المدرسة هنا لا تأخذ شكلها التقليدى المعروف، وإنما هى مدرسة من نوع خاص، حلمنا بالانتماء إليها، والتتلمذ على يد خبرائها ومعلميها، إنها "معترك الديموقراطية"، ذلك الحلم الذى طالما راودنا وحاولنا تحقيقه طيلة الستين عاما الماضية، إلا أن الظروف والقائمين على الحكم كانت تؤرقهم دائماً فكرة أن ينضج هذا الشعب، ويكون قادراً على الاختيار واتخاذ القرار، الذى يتناسب وتطلعاته ومستوى طموحاته المستقبلية.
كادت القلوب تنفطر من فرط السعادة لما حققناه بعد ثورة 25 يناير المجيدة، تلك الثورة التى شهد لها القاصى والدانى بأنها كانت من أعظم الثورات فى التاريخ المعاصر، وذلك لما أبرزته من ممارسات وسلوكيات تمثلت فيها حضارة سبعة آلاف سنة مرت بها بلادنا، شهدت خلالها الكثير من الأحداث والهزات التى غيرت من شكل الحياة فيها.
لقد أظهرت هذه الثورة كيف يمكن للشعوب أن تقول كلمتها فى وجه الطغيان والاستبداد، وأن الصبر على ممارسات الحكام الغاشمة يكون من فرط كرم الشعوب وحسن أخلاقها، أما إذا فهم هذا الصبر وهذا الكرم على أنه خنوع وضعف حينها يكون للشعوب رأى آخر، لقد أحيت هذه الثورة فى قلب الشعب المصرى خاصة وشعوب العالم عامة، الأمل فى إحداث التغيير، وتحقيق المستحيل فى القفز من واقع مرير إلى غد أفضل ومستقبل زاهر.
لقد فجرت هذه الثورة جملة من المشاعر والأحاسيس اختلط فيها الفخر والزهو والسعادة بالهلع والخوف والترقب، لما سيؤول له الحال فى الغد القريب والمستقبل البعيد، والقلق من ذلك المجهول الذى نقدم عليه، ولا نعرف عنه الكثير، ولكن هذه هى طبيعة الأمور فى السنة الأولى لنا فى مدرسة الديموقراطية.
فنحن نخطوا خطواتنا الأولى فى طريق لم نعهده من قبل، فهو قد يكون معلوم لنا نظرياً ولكنه مجهول عملياً وتطبيقياً، فمن المؤكد أن الممارسة يكون لها دائماً شأن آخر غير التنظير، ولعل هذا التخبط والتيه الذى نشعر به هذه الأيام يرجع إلى هذا السبب.
إن من أول الأساسيات التى ينبغى مراعاتها فى بدايتنا الأولى فى مدرسة الديموقراطية، هو تكريس جلّ مجهوداتنا لغرس القيم والمبادئ الصحيحة لها فى نفوس أجيال حرمت منها زمناً طويلاً، وأجيال أخرى ما زالت تحتاج لأن تتربى عليها، فالمسألة لا تتطلب أكثر من شىء من التمهل والتريث وإدراك أننا بإزاء تجربة نعيشها لأول مرة فى تاريخنا القديم والحديث، فدعونا لا نضيع الفرصة التى أتاحها الله لنا، وآخر ما نحتاجه حقاً فى هذه الفترة من تاريخنا أن يتصدر المشهد السياسى فئة من الانتهازيين وأصحاب المصالح الخاصة، أو أن ينصّب البعض منهم نفسه وكيلاً عن هذا الشعب العظيم ويتحدث بالنيابة عنه، فقد ضاقت الصدور بمثل هؤلاء، إننا فى حاجة ماسة للحظة هدوء نتأمل فيها من نحن؟ وأين كنا؟ وإلى أين نريد الذهاب؟ نجلس بعدها سوياً متحابين متضامنين متعاهدين على الخروج بهذا البلد إلى حيث يستحق.
دعونا لا نعكر صفو سنتنا الأولى، ولنجعلها فاتحة خير لمستقبل مبهر، مصر أمانة فى أعناقنا، سوف نسأل عنها جميعا، وعما فعلناه بها، فهل حفظنا الأمانة ورعيناها ووفيناها ما تستحق؟ أم فرطّنا فيها وأهملنا فى حقها وواجبها علينا؟
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة