تقاسى مصر الآن وعبر العصور أزمة نقص الخبز، وتتفاقم هذه الأزمة بين الحين والآخر، فأحيانا تعلو نبرتها وأخرى تنخفض ولكن المشكلة موجودة، تخشى الحكومة من أى محاولة لزيادة سعر الرغيف المدعم إلى أكثر مما هو عليه الآن "خمسة قروش" تجنبا لأى محاولات عنف قد تخرج ثورة الجياع عن شعورهم ويختلط الحابل بالنابل، واعتبرت الحكومة أن هذا من المقدسات وبدأت تصطنع الرغيف الطباقى والشامى ورغيف عضو مجلس الشعب وخلافه وتحوم حول الحمى وتوشك أن تقع فيه، ولكن تتنبأ فتهرب من ناحية الرغيف المدعم، والمشكلة ليست فى تجار الدقيق الذين يتاجرون بقوت الشعب ومنهم أصحاب المخابز البلدية الذين يتلاعبون فى الأوزان بالنقص أحيانا وبوضع الرمال الناعمة أحيانا أخرى والمسامير ثالثة وخلافه؟! ولكن الأزمة تكمن فى عجز الحكومات المتعاقبة بعد الثورة على توفير القمح اللازم للشعب من الناتج المحلى فكنا ننتج ربع الاستهلاك أما الآن فنحن ننتج نصف الاستهلاك، والسؤال الذى يطرح نفسه ما هو السبب وراء أزمة نقص القمح فى مصر، مع أن الأرض موجودة والمياه متوفرة والأيدى العاملة تشكو البطالة المقنعة والخبرات لدى المصريين فى كتب الرصيف وعلى المقاهى فى طاقات لا تجد من يستغلها، إذن المشكلة كانت تكمن فى النظام السابق وأخطاء الحقائب الوزارية المتعاقبة التى ركزت على التوسع فى زراعة الكنتالوب بدلا من القمح وإن أتت بسلالات من القمح المكسيكى وخلافه ضاعفت الناتج، ولكن لابد من العودة إلى سياسة التوحيد التى انتهجتها وزارة الزراعة آنفا مع القطن المصرى "الذهب الأبيض" الذى اهتز عرشه وأصبح كالأسد الذى تآكلت قواصمه وبات كالبعير الأجرب تأكل منه الذباب بعدما عز عليه "القار" الأسود، فكانت وزارة الزراعة تحرك ميليشياتها الجرارة كل عام وتنتهك حرمة الزراعة وتبيد البرسيم من أجل التنبيه لزراعة القطن، هذه السياسة لو عادت ثانية بشكل آخر مع القمح يصل إنتاجنا ثلاثة أرباع الاستهلاك، وهناك حل آخر هو الاستثمار الزراعى فى الصحراء عبر المياه الجوفية وخاصة فى مناطق الوجه البحرى العامرة بالخير أما الصعيد فتربته قاحلة وخيرها قليل كما حدث مع توشكى، ولم تعط المطلوب منها، الحكومة نجحت فى توجيه القوى الوطنية إلى زراعة القمح عبر الصحراء بأيدى الخدمة الإلزامية، ولكن مطلوب التوسع فى ذلك أكثر وأكثر وضرورة محاربة شركات الاستثمار الزراعى والداجنى والحيوانى التى تحيد عن الخط وتحول استثمار الأرض إلى محاجر وبيع للرمال بحجة التمهيد، كما حدث لإحداها فى بلاد العياط، وتتطلب السياسة الزراعية فى مصر ضرورة أن تعطى كل محافظة فى مصر خطتها لمواجهة أزمة القمح ويكون المحافظ هو المسئول عن الأمر وليست المحافظة، عندما قطعت عنا أمريكا القمح بعد تأميم القناة أكل الشعب الذرة الرفيعة بنسبة 70% منه وعاش الباقى على القمح ومنتجاته، ولم يئن الشعب من ذلك، بل عادوا أصحاء أقوياء يهزمون المرض يوما تلو الآخر، معافين، سالمين وجلست المرأة القرفصاء أمام الفرن البلدى وتحملت الدخان والنيران وبيدها مشعل أسود تعقم به بسطة الفرن لكى يخرج منه العيش سليما نظيفا من أية شوائب ومضى قطار الزمان وجاء عصر الانفتاح فهجر الفلاح أرضه وسافر إلى السعودية والخليج وعاد بالفيديو والتلفاز الألوان، وسهرت الفلاحة أمامه حتى صلاة الفجر واستعملوا البطارية بدلا من الكهرباء التى كانت تغطى جزء قليل من مصر المحروسة، وأضحت القرية مستهلكة أكثر منها منتجة وعرفت السمن الصناعى والجبن المحفوظ واللحوم المستوردة وفوق كل ذلك العيش من المخبز، هجرت الفلاحة فرنها البلدى وتوجهت إلى البوتاجاز والوسائل الحديثة فزاد النهم للعيش المدعم الذى تفاقمت أزمته بين الحين والآخر بفعل الحكومات المتعاقبة فبعدما أن رضينا بعيش الذرة الرفيعة وحمدنا الله جاء الانفتاح الذى حول أيامنا إلى سداح مداح مع اعتذارنا إلى الكاتب الكبير الصحفى "أحمد بهاء الدين" حفيد روز اليوسف، وأخيرا ليست الأزمة فى مهربى الدقيق وخلافه إنما الأزمة هى نقص إنتاجنا من القمح الذى تدعمه الدولة بتسعة مليارات جنيه سنويا لتنتج ثلاثمائة مليون رغيف يوميا، كان الله فى عون الجميع وكفانا الله الجوع ولهيب البطون.
• نقيب المحامين ورئيس اتحاد المحامين العرب .