جاء غريب، ذات يوم إلى البلدة، التف الناس حوله، أجّلسوه فى السقيفة، وما إن أرخى "خرجه" بجوار مصطبة غفا عليها برهة، واقتاد ما تيسر من طعام، أحضروه له على عـجّل، كما رغب، قال لهم: الهجرس يبلغكم السلام، ذُهّل الناس، صمت الرسول طويلا، خيّل للناس أن دهرا طويلا قد مر، نسوا فيه رجلهم الغائب، ثم أكمل الرسول: معى رسالة أبغى إيصالها لأهله.
زوجته لم تقبل لحظة حقيقة ما قيل، قالت للنسوة اللاتى تجمعن عندها صباح كل يوم فى سقيفة الدار: "لو رأيته مسجى أمامى، وأغمضت عينيه، وكفنته بيدى، وأدخلته اللحد، وواريته التراب"، ظلت مُوقنة أنه حى يرزق، كانت تقول مُنهية نقاشا لا ينتهى مع النسوة: "ربما يكون فى ورطة، أو فى سجن، أو ربما أقعده مرض، أو عذر، الغائب حتما عائد إلى أهله".
هرب من سيّاط السخرة، أثناء حفر القناة، اختفى زمنا، تاه فى مسالك الجبال الوعرة، وتسرب فى عتمة دروب الوادى الرطبة، ظن الناس أنه قضى نحبه، فترحموا عليه فى أهله لم ينصبوا له "خيمة عزاء"، واقتسموا فريقين، فريق صدق موته، وفريق آخر لم يصدق، وجميعهم لم يحاولوا البحث عنه، أو يتقصون أسباب موته، التى اختلف حولها الرواة، وتناقلوا خبره.
زوجته كانت جالسة فى سقيفة البيت، مازالت تقيم فيه وحدها، منذ رحيل الزوج، رفضت أن تُغلق باب بيتها ليلة، وأبت أن تبيت فى بيت أهلها.
كانت تنفض "غلة" العيد بمساعدة جارات لها، وكانت تضاحكهن، وتروى لهن حكايات تجلب البهجة، وهن يأسون عليها، وفى حلقهن مرارة لا تنصهر.. ثمة حزن مقيم لا يبرح القلب، يسايرونها فى الحكى والضحك والمرارة، ويقتسمون معها القليل من البهجة.
عصى خفيفة دقت باب البيت الموارب، قطعت سكون القيلولة، العّم فى الخارج، يأذن فى الدخول رمى السلام على الجالسات منهمكات فى شغلهن، فضت يدها.. ناولت "الغربال" للجالسة بجوارها.. ولحقت عّمها الذى دخل حجرة بجوار الباب، تسميها حجرة "المندرة"، كما تحب أن يطلق عليها الغائب، منسقة دائما وجيدة التهوية ورطبة، لها رائحة المسك ـ كما يحب الغائب ـ قبل أن يجلس عمها، نطق وجهه مبشرا، ويهلل بالفرح: "الله ما خيّب إحساسك مرة يا خديجة يا بنت "خّيّى" الهجرس باعت لك مرسال، معه رسالة يبغى إبلاغها لك".
كان زوجها فارقها هذا الصباح، وفى حضنها بات ليلة أمس، لم يغّب عنها كل تلك السنوات فقط ابتسامتها اتسعت قليلا، ووجهها الأسمر تزين بالبهجة، وبشارة اليقين.
دخلت عليها عمّتها العجوز، تستند على عكازها، أطلقت زغرودة عالية صافية الروح، قتلت غول الصمت والترقب، توقفت النسوة عن تنقية "الغلة"، شلت أيديهن عن الغربلة والنفض، غبّن لحظات عن الوعى، انتبهن وهن ملتفات حولها، وهى منهمكة فى ارتداء ثوب الخروج، سبقها عمّها بضع خطوات، كانت تسير بجوار عمّتها، كانت هى مهرولة تسبقها بخطوات لقوا الرسول أول البلدة، والناس ملّتفة حوله، يثنونه عن الرحيل، ويحثونه على المّبيت ليلة معهم، حسم الغريب أمره، قال: "محبتكم موصولة، معى أمانات أبغى إبلاغ أهلها"، نظر إلى الوفد القادم من جهة البلدة، تأكد أنها المعنية بالأمانة، قال الرسول بصوت عميق واضح النبرة، لا لبس فيه ولا غموض: "الهجرس يقرؤك السلام"، سكنت كل حركاتها، ساد صمت طويل، لم يُسمع إلا شخللة ورق الشجر فى الساحة المتربة، وهديل يمامة تنادى صغارها، تنامى فى الحقول البعيدة أنين ساقية مازالت تدور.
انتظر الجميع إضافة كلمة أو إماءة.. كانوا راغبين فى معرفة المزيد يطمئنهم عن ابنهم الغائب، غير أن الرجل اتجه صوب الجمل البارك بجوار أحراش صغيرة، يلوك شيئا فى فمه، ورأسه يستطلع المكان حوله.. امطتى الرسول سنام الجمل، فلم ينبسوا بكلمة، غير تبادل إيماءات الوداع.
سمع أهل البلدة، خلال الأيام والأسابيع، والتى صارت أعواما، نتفا متناثرة من أحاديث عن ولدهم الغائب، عشرات الحكايات المكتملة والمبتورة والمتناقضة والساذجة والغريبة، تناقلها أولئك الجالسون على المصاطب السمر، وأطراف الموالد والجالسين قيلولة يوم حار.
التقط أهل البلدة حكايات أخرى متعددة، تناقلها تجار الغلال والرحالة، والهائمون فى ملكوت الله أنبأتهم أن الهجرس بعد اختفائه عقب رفضه السخرة، ظهر فجأة يقاتل بجوار "عرابى" الكتف بمحاذاة الكتف.. الجواد يوازى خطو الجواد.. ظهر فى كل المواقع التى صارت ساحة للمواجهة ظهر فى طليعة الجيش فى "كفر الدوار" وفى "التل الكبير"، لمّا أنكسر "عرابى" ورجاله، لم ينكسر الهجرس نواختفى "النديم" لمّا اهتزت الشمعة قليلا فلم يلجأ الهجرس إلى نفق العتمة أو الصمت.
قرر العودة إلى أهله، ويلملم ذاته المبعثرة فى القرى البعيدة، والكفور النائية، والعزب المتناثرة فى الوادى، وعند مرابط رعاه الإبل فى عمق الصحراء، قال الهّجرس عشيّة دخول الغازى حاضرة البلاد: "خرجت من رحى المرارة وكسرة العظم وقصمه الظهر".
قيّل إنه عائد إلى قريته سيرا على قدميه، سالكا طرقا وعرّة ومدقات مأهولة بالقوافل، هوّام البشر، ينبه الناس الهائمين فى حلقات الذكر، وحول أضرحة العارفين بالله، ويُذكر الناس فى الأسواق، والحقول، والأزقة: "أن الريح العاتية جاءت، فثبتوا أوتاد الخيمة".
قيّل إنه استقر بمقام شهد صرخته الأولى يُعلم الناس الحرف التى أتقنها، غرس النخل والشجر المثمر والمظلل على جانبى الطرقات، عمل حددا، بناءً، ونجارا للسواقى والمحاريث، قصاصا للأثر، جازا صوف الأغنام، صيادا للسمك، واليّمام، والغزلان، والثعالب، ومطاردا البّوم التى تنعق فى صحراء القرية، ومقلما جريد النخل، وحوافر الخيل وجاسا للمواشى.
دخل كل البيوت التى مر بها فى طريق العودة، يّعلم ساكنيها ما تعلمه من خبرة الحياة التى اكتسبها فى محّنه الطويلة.
مازالت تصل إلى قريته نتف من أخباره، فهل وصلت أخبار القرية إليه؟ وهل وصل إليه أنين الساقية التى صنعها، مازالت تدور وترفع الماء الشحيح، وتسقى بضع نخلات غرسها فى صباه، مازالوا يقاومون الريح، ورمل الصحراء.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة