قبل ثورة الخامس والعشرين من يناير، شاركنا جميعاً فى وصم الشعب المصرى بالسلبية والاستكانة والصمت على الجور والظلم اللذين يتجرعهما بدون توقف، منذ استيقاظه صباحا وحتى نومه مساء، وأن الأمل انعدم تماما فى نهوضه للثورة على مآله المزرى القاتم. ثم حدثت المعجزة فى زمن لا يعرف ولا يعترف بالمعجزات، وهب المصريون هبة رجل واحد، ليطيحوا بنظام حسنى مبارك، واستبشرنا خيراً اعتماداً على أن السواعد الفتية التى تغنينا بشجاعتها وجسارتها أيام المظاهرات، سوف تمتد لتعيد بناء وطن قوض الفساد بنيته التحتية والفوقية، وفرط برعونة فى ثروته البشرية بإجبار العلماء والباحثين والنابهين واللامعين فى كل التخصصات والمجالات على مغادرة البلاد، بحثاً عن مجتمع يقدر قيمتهم وعطاءهم.
حلقت الآمال والتطلعات فى عنان السماء، وطال انتظارنا لرؤية معاول البناء ترفع عاليا للتشييد وتصحيح المسارات المعوجة فى الاقتصاد والصناعة والتعليم والسياسة، والعلاقات بين مكونات المجتمع، عوضاً عن هذا انخرطت جموع المصريين فى التلذذ "بمرح الفوضى". لا تتعجب نعم مرح الفوضى، فالمصريون مارسوا الهزل فى وقت لا يحتمل سوى الجدية والعمل الشاق، فقد استمرأوا حتى الثمالة فكرة الانفلات والتعطل عن العمل، وبدل أن يتجه تركيزنا وبصرنا صوب تجديد الطاقات وشحذها لاستغلالها فى ما يفيد التخطيط لمستقبل واعد، إذا بنا نبعثرها فى ما لا طائل ولا عائد يرجى من ورائها، حيث وجهنا كامل طاقتنا للثأر والانتقام، وكلنا يعلم بأن الفارق شاسع ومهول بين المحاسبة والعقاب بقوة القانون والعدالة، وبين تقمص دور بطل فيلم "أمير الانتقام".
فشهدنا أعداداً لا حصر لها من الاعتصامات فى محافظات مصر المحروسة، رغم علم الداعين إليها بأن طلباتهم بزيادة المرتبات ورفع الظلم الواقع على كثيرين منهم لن يتم بين طرفة عين وانتباهها، وأن الجهر بها مشروع أما غير المشروع فهو وقف الماكينات عن الدوران والإنتاج، وأن من يبحث عن حقه لا يصح أن يشل حركة العمل فى هذه اللحظة الدقيقة الفاصلة.
مرح الفوضى رأيناه أيضا فى عدم مراعاة وتقدير أقطاب التيارات الدينية والسياسية لظرفنا الراهن المحتاج للتناغم والتوافق، وليس إشاعة الفرقة والانقسام وفتح جبهات لمعارك هامشية تحرق وجوهنا نارها المستعرة، وتجرفنا بعيداً عن طريق تثبيت أقدام الثورة. فالإخوان المسلمون يحدثونك عن أنه لا محيص ولا مهرب عن إقامة الدولة الإسلامية، ويخبرونك ساعة بأن حزب الحرية والعدالة الذى شكلوه ليس له صلة بالجماعة، ثم يعود بعضهم لإخبارك بأن هذا الكلام غير صحيح كلية. السلفيون بدورهم لم يهتموا بالدعوة للعمل والاجتهاد فيه، وأن ثوابك عنه وعن إجادته تماثل إن لم يكن يفوق أحيانا أجر وثواب العبادات، وراحوا يضيعون وقتنا الثمين فى مطالبتهم بأخواتهن كاميليا ووفاء وعبير، ولا يتسع المقام لذكر أسماء كل الأخوات الأسيرات داخل الكنائس والأديرة. بناء عليه لم نعد نلاحق على إطفاء الفتن الطائفية فى إمبابة وعين شمس والجيزة والصعيد، ووسط الصخب ضاع جوهر الدين الحنيف بما فيه من مودة وتراحم وتسامح.
المسيحيون لم يحرموا أنفسهم من مرح الفوضى، فاعتصموا فى ماسبيرو، وأوقفوا الحركة على الكورنيش لتزيد وطأة الخنقة المرورية فى عاصمة المعز، وكلما استمر اعتصامهم ارتفع سقف مطالبهم، وكأننا فى صالة مزاد سيحصل من يدفع السعر الأعلى على بضاعة قيمة. ومع اعترافى بأن المسيحيين لهم مظالمهم وشكاواهم، والتى يتحمل النظام السابق جزءاً كبيراً من مسئوليتها، فإنهم يصرون لا أدرى لماذا على التصرف من منظور الهوية الدينية وليس الوطنية، فهم مصريون وعليهم عندما يخاطبون هذا الشعب الذى شاركهم متاعبهم أن يبرزوا مصريتهم وليس دينهم المسيحى. أطياف المستمتعين بمرح الفوضى تشمل البلطجية، ومن يحركهم من رموز وكوادر نظام مبارك، وضباط الشرطة الشاعرين بغصة فى حلقهم بعدما جرى لهم على يد المتظاهرين، ويسعون بكل أسف لأخذ ثأرهم من المواطن المصرى الذى أذلهم وأهدر سلطانهم ونفوذهم. بنى وطنى لنخلع نظارة الأنانية ولنحب وطننا، حتى نعبر به بسلام أزمته الآنية، ونجنى الثمار الطيبة لثورة ارتوت بدماء شهداء أبرار، وحرام أن نجهضها بعبثية تصرفاتنا.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة