بين الظالم والمظلوم فى دولة القانون حكم القاضى، وبين القاضى والمتهم قوانين وقرارات وأدلة، لكن بين الفقراء والنظام السابق تكتشف قرارات متضاربة ومحسوبية وعجائب لا تراها إلا فى ظل سلطة ديكتاتورية تهمش شعبها من أجل مصالحها.
أرقام وأسماء فى السجون وقرارات تقرأ عنها يوميا وسط آهات بداخلك لأنك لا تصدق ما كان يحدث فى البلد طوال 30 عاما من التغييب والتهميش والاستعمار المقنن، لم تخلف وراءها مليارات الدولارات المنهوبة بل ضربت المجتمع فى صحته فتركت عشوائيات وجهلا وتطرفا وانقساما وطبقية، والأخطر انعدام الثقة فى إعادة الدولة حقوق الفقراء والعدالة الاجتماعية فى المجتمع.
مقدمة كان لابد من وضعها نصب أعيننا لتحليل ردود فعل 80 أسرة مصرية قررت ألا تنتظر حكومة أو جيشا أو قوى سياسية لتحصل على حقوقها، بل أن تأخذ حقها بيدها، العشرات من أفرادها سيرتبط مصيرهم بحكم قاض فى جلستهم يوم 22 مايو المقبل لطلبهم ملكية الأراضى المتهمين بالاعتداء عليها.
حكم سيرتبط بأدلة وورق وقرارات لازمتهم مع اتهامهم بالاعتداء على 780 فدانا ضمن 17 ألف فدان بالظهير الصحراوى لمدينة السادات، وصفهم القانونى مغتصبو أراض، نفذت القوات الأمنية بمساعدة الجيش التصرف القانونى تجاههم بإزالة تعدياتهم على أراضى الدولة، فاقتلعوا الزرع، وحرقوا العشش، وهدموا الآبار، وجرفوا الأرض، ليفر الفلاحين وأسرهم فى سيارات نصف النقل والتى أصبحت منذ ذاك اليوم "بيتهم الجديد" بعد ضياع المال والأمل فى الأرض.
على حصيرة لا تتعدى 3 أمتار وتحت أشعة الشمس الحارقة المخترقة أعواد الخوص التى صنعها عبد المجيد الطالب بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر مع والده، يتابع الأرض التى دخلها مع غيره من الفلاحين عقب سقوط النظام، وبكلام ممزوج بالغضب صرخ عبد المجيد فى وجهى قائلا "احنا مش بلطجية، خليهم يطلعوا واحد مننا مسجل خطر أو عاطل، إحنا ولاد فلاحين ومعانا شهادات عليا ومتوسطة، والكل عارف الدولة كانت إزاى بتتعامل مع الفلاح وسلبت حقه وباعت الأرض وحولته إلى فقير".
كان صوت عبد المجيد كافيا بانضمام عشرات الفلاحين حولنا لكى يضيفوا مزيدا من الشهادات على معاناتهم، ومن الربط بين مختلف القصص تجد أن الأزمة لا تعود إلى مجرد 3 أشهر عقب الثورة بل إلى 7 سنوات، بدأت عندما تقدم عدد من الفلاحين من المنوفية فى 2007 بطلبات إلى وزير الزراعة من أجل تملك 10 أفدنة فى مدينة السادات والتى تضع ضمن نطاق 17 ألف فدان على الظهير الصحراوى بالمدينة.
المرور على الأرض كان مستمرا من الفلاحين خلال طريقهم لنقل محاصيل الأراضى التى كانوا يؤجرونها ما بين 500 و2000 جنيه فى العام، وأعينهم تقول كما يوضح رضا محمد الذى يحمل فى خانة العمل ببطاقته أنه عامل زراعى "مش طمعان فى أكثر من فدانين لأسرتى المكونة من 14 فردا عشان أترحم من مصاريف إيجار الأرض لأنى فى الآخر كنت بلاقى نفسى خسران ومديون".
ومن أدراج وزارة الزراعة انتقلت آمال الفلاحين إلى أدراج هيئة المجتمعات العمرانية بجهاز مدينة السادات والتى تتملك الأرض وفقا للقرار الجمهورى بإنشاء المدينة، حتى أصدر أحمد نظيف، رئيس الوزراء الأسبق، فى 2009 قرار رقم 169 بتحويل ملكية 17 ألف فدان بمدينة السادات إلى الهيئة العامة لمشروعات التعمير والتنمية الزراعية.
يقول حمدى إسماعيل "كان القرار بمثابة الفرج لنا جميعا فكوننا عدة مجموعات لتقديم طلبات استعجال إلى وزير الزراعة بكون الهيئة تابعة إليه لسرعة البت فى شرائنا الأراضى ودفعنا 360 رسوما لكل طلب، إلا أننا فوجئنا برفض الجهاز تنفيذ قرار نقل الملكية وتمسكه بقرار رئيس الجمهورية، الذى جعل أراضى السادات فى ملكية جهازها منذ إنشائها ومحدش سأل فينا".
يضرب إسماعيل كفا بكف قائلا "يعنى هما بيلعبوا بينا بالقرارات، أنا خريج كلية الزراعة عام 1986 والدولة لم تعينى، فاضطررت إلى تأجير قطعة أرض فى كوم حمادة، لكن مصاريفها كتير، كان نفسى أملك أرض فى بلدى".
حمدى وعشرات الفلاحين أكدوا أن منذ قرار رئيس الوزراء لم يكونوا يستطيعون الوقوف فى الأرض، يقول محمد السيد "المنطقة كانت مليانة خفر تابعين لأحمد عز وابنة صفوت الشريف ومنير ثابت، فلم نكن نجرؤ على الوقوف فى الأرض وإلا نسمع ضرب نار أو نروح أمن الدولة، ووقتها أدركنا أن الفقراء ملهمش نصيب من أرضهم وأن تعليق الرد على طلباتنا سببه أن الأرض محجوزة لرجال الأعمال".
4 سنوات امتلأت صدور الفلاحين بالحنق والغضب ضد الجهاز والهيئة والمسئولين، سمعوا فيها كما أخبرونى أن أحد لواءات الشرطة حصل على 100 فدان بالمنطقة مقابل 17 جنيها، وأن رجل أعمال آخر حصل على 4 آلاف فدان بنفس السعر، فما كان منهم عقب الفراغ الأمنى وانسحاب الشرطة وخلو الأقسام وهروب الخفر الذين أصبح رؤساؤهم فى السجون، إلا أن نزلوا إلى الأراضى وقالوا "هناخدها وضع يد".
زحف الفلاحون إلى الأرض واتفقوا على تخصيص 10 أفدنة لكل أسرة، كما قرروا أن يتشاركوا فى الآبار بحيث يغذى 50 فدانا بدلا من 10 نظرا لعدم قدرة كل منهم على حفر بير خاص والذى يصل إلى 120 ألف جنيه.
باع سعيد بيته فى البحيرة الذى كان يقطنه مع إخوته الخمسة، ولم يجد أحمد ونبيل ومحمود وغيره من الفلاحين إلا الاقتراض من البنك وتحمل فائدة تصل إلى 7%، بينما اضطر عادل إلى إنفاق فلوس زواج ابنته أملا فى تعويضها من "خير الأرض"، وكثير من القصص التى تتمحور فى صرخة عبد المجيد الأولى "إحنا مش مافيا أراضى إحنا عايزين نزرع خير للبلد عشان الأسعار تنخفض ولا نستورد من الخارج".
4 شهور كما أوضح أحمد غانم– من البحيرة– عمل خلالهم الفلاحون على توضيب الأرض من حيث مد شبكات الرى وتقسيم التربة وغرس بذور الطماطم والموالح من برتقال وموز ويوسفى وباذنجان وعنب، وشراء الأسمدة والمبيدات، ويضيف "ذهبنا إلى هيئة التنمية والتعمير الزراعى لكى نثبت وضع اليد على الأرض وتقنين أوضاعها قالوا لنا ازرعوا وإحنا هنملككم بعدين".
الأوراق التى يحملها غانم فى كل مكان وأخرجها من كيس بلاستيك بجيب جلبابه الواسع التى تضم رقم الطلب الذى قدمه يوم 13 مايو 2007 برقم 1428 لملكية 10 فدان مقابل 20 جنيها رسم فحص لكل فدان، كما تضم استعجال الطلب برقم 3563 يوم 6 أبريل 2011، ليؤكد أن نيته شراء الأرض وليس اغتصابها، إلا أن هذا الورق كان فى يد موظفى الجهاز "مالوش لازمة" لأنه لا يعطيه الحق للجلوس فى الأرض طالما لم يأخذ أوراق الموافقة.
مد عبد المجيد الطالب الأزهرى يده إلى التربة وظل يحفر فيها لثوان لتجد الرمل تغير لونه، نظر إلى وقال "تغير لون الرمل يدل على تشربه بالمياه الجوفية أسفله وهو ما أكدته إحدى الدراسات التى وجدت أن المياه فى السادات تستطيع أن تروى 250 ألف فدان يوميا ورغم ذلك الجهاز متمسك بأن تدخل هذه الأرض فى نطاق الحيز السكنى".
وأشار العميد أشرف المحمدى إلى بداية الطريق المطل على الأرض التنازع عليها وقال "أنا عايزك توصلى صوتى لدكتور عصام شرف والمجلس العسكرى أغيثوا الفلاح المصرى، ارحمونا من وجوه النظام السابق التى ما زالت متبقية فى المدينة باستمرار رئيس الجهاز ومدير الأمن ، امال ثورة ازاى".
فى الطريق امتلأ المكان بالفوضى فالفلاحون يسابقون الوقت كى يجمعوا المواسير بعدما علموا أن القوات الأمنية تزيلها باللودر فى أولى الأراضى التى نفذت فيها إزالة التعديات، ونظرات الحسرة على السيدات لرؤية النيران التى اشتعلت فى عششهم، حتى وصلنا إلى أراض واسعة مزروعة، نبيل محمد كمال قال "مش هييجوا ناحيتها لأنها أرض منير ثابت ابن عم سوزان وحصل على تأشيرته من الرئيس شخصيا"، ثم نظر إلى باستغراب عندما سألته "وأنت عرفت ازاى؟" لكنه اضطر إلى الإجابة قائلا "عندما ذهبت إلى رئيس الجهاز قلتله أشمعنا منير ثابت قالى لو قدرت تجيب ورقة زى اللى جابها منير إبقى خد الأرض".
وأضاف " أطالب وزير الزراعة بالنزول إلينا لأننا مش بتوع تسقيع الأراضى إحنا عايزين ننتج ومستعدين لشراء الأرض أو أخذها بحق الانتفاع أو أى وضع قانونى المهم ألا يكون مصيرنا الشارع، وأنا متأكد أنه لو نزل وعاين الأرض هيقول أنها زراعية 100%".
وعلى بعد 50 مترا أخرى من مكان تجمع الفلاحين كانت يافطة "هانز جروب" والتى أوضحوا أنها إحدى الشركات التى استطاعت الحصول على تخصيص من أحمد المغربى وزير الإسكان السابق، والموجود حاليا فى طره.
وبالانتقال إلى حديث أشرف عبد الرحمن، رئيس جهاز مدينة السادات، تجد نفسك أمام قرارات وأوراق رسمية، فالأرض التى تمتد إلى 17 ألف فدان هى توسعات عمرانية طبقا للمخطط الاستراتيجى المستقبلى للمدينة أعده سامى عمارة المحافظ السابق.
عبد الرحمن نفى بشكل قاطع صلاحية الأرض للزراعة، موضحا أن النطاق الزراعى فى السادات لا يوجد سوى فى الحزام الأخضر حول المدينة، كما أكد أنها ملك للشعب وشراؤها يكون عن طريق السبل الشرعية التى تقدر سعرها الحالى بحوالى 2 مليار جنيه وأن الجهاز له الحق فى استردادها لكى يستكمل مخططاته فيها.
حديث عبد الرحمن الذى سبق حديث الأهالى عكس فجوة كبيرة بين الجهاز والفلاحين تعيد إلى الأذهان تعامل النظام السابق مع المجتمع، وهو ما انعكس عقب الموقف الذى قام به أفراد الجهاز عقب تجمع الفلاحين للإعلان عن أصواتهم.
عربة الجهاز التى كان من المقرر أن تقلنى حول الأرض لمتابعة عملية الإزالة فوجئت اثناء وقوفها بتجمع الفلاحين للتعبير عن معاناتهم، وبمجرد وقوفى معهم ما كان من العربة إلا أن تركت المكان ورحلت.
وطوال الطريق داخل عربة أحد الفلاحين الذى عرض على نقلى إلى عربة الجريدة التى كانت تسبق عربة الجهاز، تذكرت مظاهرات 25 يناير التى كان السبب الأكبر خلف اندلاعها هو انضمام فئات الشعب الذين لم تكن الدولة تستمع إلى أصواتهم، خرجوا ليسقطوها بأيديهم، لمجرد أنها لم تستمع إليهم.
إزالة تعديات 17 ألف فدان بمدينة السادات تثير صرخات الفلاحين.. ويؤكدون تجاهل الدولة مطالبنا لشراء الأرض دفعنا لتملكها بوضع اليد.. وشاب باع بيته لحفر بئر.. وآخر "لسنا بلطجية وكلنا شهادات عليا"
الإثنين، 23 مايو 2011 01:39 م
صورة أرشيفية
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة