صباح أمس بينما كان السوريون يشيعون نحو 44 شهيدا سقطوا يوم الجمعة، برصاص الجيش وقوى الأمن، فى مدن مختلفة من البلاد، كان الرئيس السورى، بشار الأسد، يلتقى وفدًا من المستثمرين العرب، وحسب وكالة الأنباء السورية الرسمية قال الأسد الابن لضيوفه إن مستقبل بلاده واعد، ودعاهم إلى القدوم وضخ الاستثمارات، وقبلها بساعات كان الرئيس الأمريكى يخير الأسد بين قيادة الإصلاحات فى بلاده أو الرحيل.
ثلاثة مشاهد تعكس الوضع فى سوريا بشكل حقيقى، وتكشف عن التناقض الرهيب فى المشكلة السورية وطرق التعاطى الرسمى الداخلى والخارجى معها، فبينما مات نحو ألف سورى فى عمليات يمكن وصفها بالإبادة الجماعية، يبدو الدكتور بشار، وكأنه يتحدث عن بلد آخر غير الذى يحكمه، مبشرًا بمستقبل واعد لبلاده، بينما مستقبله فى الحكم محفوف بالمخاطر، واستقرار بلاده على المحك، إن لم يكن قد دخل دائرة الفوضى بسبب عدم قدرته على قيادة الأمور واستيعاب دروس التغيير من حوله.
لكن الغريب أن ضيق الأفق السياسى الرسمى فى التعامل مع الأزمة السورية يقابله تدليل غربى لنظام البعث يبدو غريبا، فبينما حسم الغرب أمره، مما جرى فى مصر منذ السبت 29 يناير بدعوة مبارك إلى الرحيل، يدعو نفس الغرب الأسد إلى قيادة الإصلاحات فى بلاده ولو على دماء شعبه، وهو ما يكشف ربما عن علاقات تحت السطح تبدو غريبة ومريبة مع ما كان يسمى بمعسكر الممانعة فى العالم العربى.
ضحى الغرب بأحد زعماء معسكر الاعتدال، وهو مبارك فى مصر سريعا، لكنهم يتمسكون بأحد زعماء معسكر الممانعة، وهو أمر لابد وأن يثير التساؤلات عن حقيقة الممانعين والأدوار التى لعبوها ولا يزالون فى العالم العربى.
تدليل الأسد اعتراف لا يقبل الفصال فى إن استمرار نظامه فى الحكم، ليس مصلحة غربية فقط، وإنما إسرائيلية أيضا، فجبهة الجولان السورى المحتل هى أهدأ الجبهات العربية مع إسرائيل، ومنذ أكتوبر 1973 لم تطلق رصاصة فى الجولان، باستثناء تحريك الجماهير السورية واللاجئين الفلسطينيين فى ذكرى النكبة لاقتحام الحدود، وهو ما رأته إسرائيل محاولة غير مسبوقة من دمشق لتصدير مشاكلها الداخلية إليها ولإلهاء الشعب السورى عن المجازر اليومية التى يتعرض لها وهذا صحيح إلى حد كبير.
سوريا تعيش أزمة تصل إلى حد المأساة، تراقبها عيون العالم، لكنه صامت عما يجرى من مذابح، ربما لأنه لا يريد التضحية بالبعث الحاكم، أما الرئيس السورى الذى لا يزال شابا، ويفترض أنه يملك علاقة وثيقة بالمستقبل، وقدرة على التعلم، فإنه لم يتعلم مما حدث فى مصر وتونس، ولم يسبق الغضب الشعبى بإصلاحات حقيقية ترضى الناس، وتتجاوز غضبهم.
كانت مشكلة مبارك فى مصر أنه تجاوز الثمانين، وبالتالى أصبح خارج الزمن الذى نعيشه بحكم العمر والمرض، وفى نفس الوقت كان أقرب مستشاريه إما يقتربون من عمره مثل صفوت الشريف وزكريا عزمى وفتحى سرور، أو جناح آخر يقوده جمال مبارك من جيل الوسط الأكثر شبابا، لكنهم من الهواة الذين يفتقدون الخبرة السياسية، لذلك انهار مبارك سريعا لأن أذرعته السياسية إما عاجزة بحكم السن، أو لم تنضج بعد بحكم الهواية.
ويبدو أن مطبخ بشار السد لا يختلف كثيرا عن مطبخ مبارك، فالرئيس القائد من جيل الوسط الذى يفتقد السياسة الحقيقية، والحرس القديم الذى يحيط به أصبح خارج نطاق الزمن، لذلك سقطت سورية فى دوامة العنف، وأصبح شعبها بائسا، ورئيسها غائبا عما يحدث فى بلاده، لكنه يحظى بتدليل العالم وهنا قمة الملهاة.. والمأساة!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة