تزداد المطالبة بالدولة المدنية فى أعقاب حوادث الفتنة الطائفية، ولقد كرس ذلك مفهوما منقوصاً عن الدولة المدنية فبدت وكأنها حلا لإشكالية مسيحية – إسلامية. وهى بالفعل كذلك ولكنها لا تقف عند هذا الحد، لأنها ضمانة لحقوق وحريات المسلمين أنفسهم وفيما بينهم.
الدولة المدنية دولة حديثة لم يعرفها العالم قبل العصر الحديث لا شرقاً ولا غرباً. صحيح أنها تأسست دعائمها فى أوروبا بعد حرب المائة عام، تلك الحرب التى نشبت بين الكاثوليك والبروتستانت فى أعقاب الإصلاح الدينى فى ألمانيا وفرنسا وإنجلترا وهولندا. وبعد أن تأكد الفريقان المتحاربان أنه ليس بوسع أحدهما القضاء على الآخر، طرح التاريخ حينئذ صيغة الدولة المدنية. ولكن لم تبق الدولة المدنية أسيرة هذه الظروف، إذ ما لبثت أن فرضت نفسها أو فرضها المواطنون فى بلاد أخرى. فلقد وجدنا دولاً أخرى تتبناها مثل إيطاليا وأسبانيا، وهى دول لم تعرف الانقسام الدينى أو الطائفى، فجميع سكانها من الكاثوليك، ولكنها عرفت ما هو أسوأ من ذلك وهو التسلط على الناس باسم الدين. فلقد شهدت ايطاليا محاكمات للمفكرين والعلماء مثل سافونا رولا وجاليليو وغيرهم، بتهمة إنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة. كما عرفت أسبانيا، بعد طرد العرب منها، محاكم التفتيش المسيحية التى كانت تفتش فى النوايا لتبحث عن مسلمين أو يهود يكتمون إيمانهم، ثم تحولت بمضى السنين إلى محاكم للفنانين والعلماء والأدباء ورجال الدين المستقلين بتهمة معاداة المسيحية. ويحكى فولتير فى القرن الثامن عشر عن جماعات الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر الباريسية، والذين كانوا، وهم فى طريقهم إلى القداس بالكنيسة، يرون مواطنين جالسين آمنين فى شرفة منزلهم، فكانوا يصعدون إليهم ليرمونهم من الشرفات لأنهم تكاسلوا عن الاستجابة لنداء ربهم إلى الصلاة.
كل هذا أصبح فى أوروبا حكايات تنتمى إلى الماضى، ولكن أشباحها مازالت تجول فى ثقافتنا وفى شوراعنا. قضت الدولة المدنية فى أوروبا على كل هذا من خلال منع الحكام من استخدام الدين لقهر المواطنين؛ وأصبحت بذلك شرطا لا غنى عنه للتقدم والإبداع. ولهذا السبب تتبناها بلاد من أقصى الأرض إلى أقصاها دون أن تعرف الطائفية. فلقد بدأت اليابان فى عهد ميجى فى أواخر القرن التاسع عشر فى وضع أسس الدولة المدنية للتخلص من الإدارة القبلية والاقطاعية للمجتمع التى كانت تفرضها قبائل الساموراى وتدعى أنها جزء من العبادة الدينية. ولكن من حسن حظ اليابانيين أنهم وجدوا نخبة تمضى فى طريق الحداثة بلا تلكؤ، ولم ينصتوا إلى من يريد الدفاع عن مخلفات الماضى باسم الهوية اليابانية. وفى الصين تبنت القوى الليبرالية الدولة المدنية فى بداية القرن العشرين وسار فى أعقابهم الشيوعيون للتخلص من الحكم الإمبراطورى الذى كان يقوم على استرقاق الفلاحين ويعد نفسه حكما مقدساً.
لكل هذه الأسباب علينا ألا نقصر مفهوم الدولة المدنية على أنها مجرد صيغة للتعايش بين المسلمين والمسيحيين. لأن هذا التصور قد يؤدى إلى حلول خاطئة: ففى حديث مع المرشد السابق للإخوان دعا إلى دولة دينية تطبق الشريعة الاسلامية وحينما سألوه عن مصير المسيحيين قال: يتركوا البلد. وفى السودان، فى ديسمبر الماضى حينما تقرر الاستفتاء حول انفصال الجنوب وبدا أن الأغلبية الساحقة من الجنوبيين فى صف الانفصال صرح رئيس السودان مهدداً: أنه لن نكون إذن فى الشمال المسلم بحاجة إلى العلمانية وسوف نطبق الشريعة الاسلامية. وتم يومها القبض على فتاة سودانية ترتدى البنطلون وصحبها شرطيان إلى ميدان عام فى الخرطوم وضرباها بالعصي، كرسالة احتجاج متخلفة ضد انفصال الجنوب يدفع ثمنها مسلمو الشمال أنفسهم.
ولقد راج فى الخطاب الدينى فى مصر بألوانه المختلفة فى الربع الأخير من القرن العشرين اتهام لدعاة الدولة المدنية من الرواد مثل قاسم أمين وأحمد لطفى السيد وحسين هيكل وطه حسين بأنهم عملاء للغرب المسيحى، وراج اتهام لدعاتها الحاليين أنهم يعملون لحساب المسيحيين المصريين. رغم أن الدولة المدنية تعنى ببساطة رفع الوصاية عن ضمير الأفراد، كما تعنى أيضا أن السياسة التى تمارسها الدولة والاقتصاد الذى تتبناه هى سياسة واقتصاد وليست برنامجاً إلهياً أو تنفيذا لوصايا الدين. ولهذا فهى دعوة لمصلحة كل المصريين الطامحين إلى الحرية والتقدم.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة