عماد صبحى

الهاربون من الميدان.. والتائبون عن التشجيع

الجمعة، 20 مايو 2011 07:27 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كما طهرت الثورة مصر من مبارك ونظامه الفاسد، فقد طهرتنى أنا أيضا من آفة تشجيع الكرة، ورفعتنى من علة الجنون إلى رحاب الترفع وعنان الكبرياء والإحساس بدونية ذلك الشىء، الذى كان يخطف حواسى ومشاعرى ويقود حالتى النفسية مستقرا بها إلى حيث كانت تؤول نتيجة مباراة.

قبل الثورة كانت علاقتى بتشجيع الكرة مرضية وليست سوية وكنت أكره النادى الخصم أكثر من حبى للنادى الذى أشجعه، ووصل الأمر الى حد أننى كنت أخاف وأرتعد من مشاهدة المباريات، كان قلبى يخفق الى حد الإحساس بأن روحى ستصعد الى بارئها، وكنت أشعر بالبرد فى عزالصيف وأتصبب عرقا فى الشتاء.. كل فصول السنة كانت تراودنى أثناء المباراة.

بعد الثورة التى وحدت آمال وأحلام وأهداف المصريين، شعرت أننى ظلمت نفسى كثيرا عندما رهنت حالتى النفسية بشىء تافه كلعب الكرة، هذا الشعور منبعه أننى لم أر لاعبا واحدا من هؤلاء الذين يحصدون المال والشهرة والمجد والأضواء ونحرق دمائنا وأعصابنا من أجل عيونهم، ضمن الثوار فى ميدان التحرير، باستثناء لاعب واحد هو محمد عبد المنصف تواجد طوال الـ18 يوما.

كنت على يقين قبل الثورة أن هذا الانفعال لا يستحق أن يتجه إلى هم كروى، غير أننى أقر وأعترف بأننى حاولت كثيرا وعبر سنوات طويلة الإقلاع عن هذه العادة دون جدوى، ولما اندلعت الثورة، كنت أترقب بشغف إزاحة الفرعون وسقوط نظامه بنفس ترقبى وشغفى بإحراز لاعبى الفريق الذى أشجعه للأهداف، ولما أجبر الفرعون على التنحى، صارت كل الأشياء بالنسبة لى أتفه من أن أنفعل من أجلها، خصوصا إذا كانت الكرة، ذلك الأفيون الذى نجح النظام السابق فى إجادة استخدامه لتغييب عقولنا وإشغالنا نحن المصريين عن كثير مما كان يستحق أن ننشغل به، الكرة التى امتطاها الوريث وشقيقه لإذابة جبال الجليد القائمة بينهم وبين الناس فى محاولة لاكتساب شعبية وجماهيرية لا يستحقانها، إلى حد أنهما تسببا فى إثارة الفتنة وإحداث أزمة دبلوماسية مع دولة عربية شقيقة هى الجزائر.
الآن أصبحت إطلالة أى لاعب عبر الفضائيات، أوقراءة تصريح لمدير فنى أورئيس ناد على أى موقع إلكترونى أوصحيفة، أو الحديث عن النقاط والدورى والكأس، أمر غير مرغوب أومحبوب بعد أن كنت أتابعه بشغف، لأن الهموم الوطنية أصبحت أعلى وأغلى وأطهر وأقدس من أى هم أوشأن آخر.

لقد أزاحت الثورة القناع الذى كان يضعه اللاعبون وقيادات الأندية على وجوههم، فبعض من يجلسون على الكراسى الرياضية ليسوا بمعزل عن الفساد ومتورطون فى مخططات إجهاض الثورة، والبعض الآخر يقف فى خانة أعوان النظام السابق، ثم أن اللاعبين ليسوا عباقرة أو أصحاب معجزات أو بطولات أو فرسانا على صهوة جواد، لا يحملون وهم فى أرض الملعب الخضراء سلاحا ليدافعواعن الوطن، ولا يفتحوا على النجيل الناعم صدورهم - مثلا - فى مواجهة رصاص الأعداء، هم فقط يهرولون وراء المستديرة، والحقيقة المؤلمة أنهم تقاعسوا وتخاذلوا وهربوا عمدا مع سبق الإصرار والترصد عن نداء الشعب كل الشعب ورفضوا أن يكونوا وسط ثوار أطهر وأقدس وأنبل وأعظم ثورة فى تاريخ مصر الحديث.
الحقيقة الأخرى هى أن لعب الكرة من غير الجائز أن نقرنه بالانتماء وحب الوطن، بل إن الوطنية بريئة من الرياضيين ولاعبى الكرة الذين يغيبون عن ثورة الشعب الذى منحهم الشهرة والمجد والأضواء من دون مقابل أوثمن.

وبموجب هذه الحقيقة صرت مؤمنا ومقتنعا بالإقلاع والتوبة عن التشجيع وتحررت من حالة الحب والكراهية، صرت لا أحب النادى الذى أشجعه ولا أكره النادى الخصم، ولا أحزن ولا أفرح، وأصبحت لدى إرادة تجاهل المباريات والنتائج والنقاط، ليس هروبا وإنما لأننى اكتشفت أننى عشت عمرى "غافلا"، فالتشجيع كان بالنسبة لى كمدمن المخدرات الذى يعرف أنها تدمر صحته وجسده وتفقده ماله وبدنه، وفى كل مرة يقرر وهو يتعاطاها أن تكون الأخيرة، ويتعاهد مع نفسه على الإقلاع عنها، لكنه يعود اليها عاجزا عن أن يكون صاحب إرادة إزاء ذلك الشىء الذى أصبح أقوى منه.

هكذا كانت الكرة، أكرهها ولاأقدر على فراقها، أعلم أنها سبب آلامى ولاأستطيع التخلى عنها، أدرك أن ضررها أكبر من نفعها وأعجز عن إجتنابها.. الى أن جاءت الثورة، فكان كالصكوك التى منحتنى هبة الغفران وطهرتنى من ذنوب الإدمان أو كالطبيب الذى وصف لى الروشتة وقدم لى الدواء، وأجرى لى جراحة لاستئصال ورم خبيث فى قناعاتى لتزول أوجاعى الى الأبد.

بعد كارثة نزول الجمهور للملعب خفضت رأسى خجلا، وشعرت بانكسار كالذى أشعر به كلما أرى الفتنة الطائفية وأشاهد أعداء الثورة وهم يحققون أى انتصار، وكلما أرى الثورة العظيمة التى تحاكم رأس وجسد النظام الفاسد وتدشن قيم العدالة والحرية وحقوق الإنسان، تعجز عن القضاء على فتنة مفتعلة،أوعن إحكام قبضتها وردع الخارجين عن القانون من البلطجية الذين أساءوا للثورة ولوجهها الملائكى أمام العالم.

حالة الإفاقة من الوهم أو الغفلة هذه ليست حالتى وحدى، بل حالة آلاف مثلى جعلوا من حقائق الثورة مرآة أضاءت لهم الطريق وطهرت نفوسهم من داء التشجيع اللعين.

الآن أشعر أننى أقوى لأن أفراحى لم تعد رهنا لهدف يدخل فى الشباك، ولم تعد أتراحى أسيرة أقدام لاعبين هاربين من الميدان.





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة