كلما تابعت بعض ما تبثه قنوات التليفزيون المصرى، وبعض القنوات الخاصة – باستثناء ON TV - بعيداً عن برامج الحوار السياسية ينتابنى الأحباط وأجدنى محاطاً بكآبة أجواء ما قبل ثورة 25 يناير، ذلك بسبب الإصرار على بث برامج التسلية البلهاء التافهة ثقيلة الظل، وأفلام التهريج ومسرحيات الهلس والأغانى الرقيعة، والساعات الطويلة فى تحليل المباريات المتواضعة والعادية، والغريب أن أغلبها لنجوم من مذيعين أو فنانين من العهد البائد ممن حكمت عليهم مواقفهم من النظام الفاسد ومن الثورة بالانطفاء المفاجئ كما كانت مفاجأة الثورة، والأكثر غرابة أن يأتى بث هذه المنتجات الغثة الكريهة والتى أفرزها المستوى الهابط للحياة المصرية فى عهد نخبة طره الفاسدة، فى توقيت لم يعد فيه أغلب المصريون يطيقون الهزل فى أوقات تستلزم الجدية التى وضعتنا فيها أحداث الثورة وتداعياتها وتحدياتها، وأصبحوا لا يطيقون مشاهدة هذه البلاهة أو هذه الوجوه، كما أخبرنى أكثر من شخص من المعارف والأقارب على اختلاف أعمارهم، وكأن القائمين على ماسبيرو لم يدركوا بعد بأن الثورة قد أزالت الغبار عن وعى المشاهدين، فتغيرت الأمزجة وتطورت الأذواق وعادوا أكثر حرصا على العمق والجدية والمتعة الراقية، بعيداً عما يتم بثه من ابتذال وتفاهة لنجوم لم يختلف تاريخهم مع نخبة الفاسدين عن إنتاجهم الردىء.
وأيضاً ينتابنى الإحباط وتحاصرنى أجواء ما قبل الثورة كلما تابعت الخطاب التعليمى الرسمى بالصحف والتليفزيون، نفس الأكليشيهات ونفس الأجوبة والحلول صانعة الأزمات، ونفس التغافل عن أزمات التعليم المصرية الحقيقية، وممارسة الصمت حول أى تعليم نريد ليواكب تطلعات ثورتنا، واقتصار الحديث حول قضايا فنية ضيقة تم طرحها داخل أكثر من إستراتيجية تم وضعها على طريقة حلول مارى انطوانيت (الشعب لا يجد الخبز، فليأكل الجاتوه) مع أكثر من وزير خلال الثلاثين عاماً السوداء، بينما يتهاوى تعليمنا، فالكلام يدور حول التقويم الشامل، الكادر، أرقام الجلوس، الامتحانات، التصحيح ومكافآته، لجان المراقبة، ولا حديث عن ضرورة وكيفية إعادة الاعتبار للتعليم الحكومى وردم أو تضييق الفجوة بينه وبين تعليم الأغنياء تحقيقاً للعدالة الاجتماعية، ولا حديث عن ضرورة وكيفية زيادة نسبة الأنفاق عليه والتدابير المتخذة لذلك، ولا حديث عن تصورات وآليات بشأن الارتقاء بمناهجه المتراجعة وتعظيم مردوده الثقافى على المتعلمين، وسبل تشكيله للمواطن المدنى داخل الدولة المدنية، وغيرها من الأدوار التى تبخرت مع وزراء العهد الفاسد ليبقى دوره الأبرز فى تعبئة الأطفال بحب بابا مبارك وماما سوزان عبر مناهج وكتب دراسية فى غاية الضحالة والركاكة.
لقد أكد الكثيرون مع بدايات الثورة على ضرورة الاستعانة بحكومة تكنوقراط خلال الفترة الانتقالية، لكن لم يتنبه هؤلاء إلى أن كل ثورة لها قدمان، قدم فى الحاضر تمثلها حركة الأجساد الثائرة وهى تقدم الدم والشهداء للانعتاق من واقع أليم، وقدم فى المستقبل قوامها الإعداد الثقافى المناسب لتحقيق واقع بديل تحكمه مبادئ وشعارات هذه الثورة، وهو ما اتفق على تسميته فى الأدبيات بالثورة الثقافية التى شكلت القدم الثانية للثورات الناجحة المكتملة، هذا الأمر يجعلنا ننادى ونلح بضرورة استثناء الإعلام والتعليم من حكاية التكنوقراط، إذ باعتبارهما قدم الثورة الزاحفة نحو المستقبل، لابد لهما من مثقفين يؤمنون بمبادئ ثورتنا، ويملكون رؤى وتصورات تحقيقها.
أكتب هذه السطور متذكراً مقولة يوسف إدريس "أعطنى التليفزيون لمدة ستة أشهر أعطيك شعباً مختلفاً" ومتذكراً تجارب كل الدول التى تمكنت من مستقبلها عبر نظامها التعليمى بعد تثويره، وربما دون ذلك ستعيد مصر إنتاج بعض ماضيها، أو تتحرك بقدم عرجاء نحو مستقبل مجهول.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة