القاعدة الذهبية والحكمة الصافية هى أنه إذا كان الكلام من فضة، فإن السكوت من ذهب، وهى التى تطبقها الممارسة الشعبية وغير الشعبية حين يقاطع أحدهم الآخر قائلاً بنفاد صبر: «هات من الآخر»!!، أو عندما تطول سنوات الزواج وتصبح بلاغة الزوج مع زوجته مقتصرة على الصمت الجميل!!
فالكلام ورطة كبيرة لا يعرف فداحتها إلا من أدرك قيمة «الكلمة»، وإذا كان الكلام كلاماً فى السياسة فالورطة أشد وأعمق، والويل كل الويل لمن أطلق للسانه العنان، وظن - مع عدم نية الإثم- أنه لا ينطق عن الهوى، فالهوى مفترض مهما بالغ الشخص فى تجرده، وقواعد ميكانيكا اللغة تبرهن على أنه لكل كلام رد كلام، ولن يفلت الشخص من التأويل والتفسير وقراءة الظاهر والباطن، ولن يعدم حاقداً أو جاهلاً أو منافقاً يأخذ كلامه كى يفصل منه ما تنطبق عليه حفنة من مواد قانون الجنايات.
لا جدال فى أنه "لن يكب الناس على وجوههم فى النار يوم القيامة إلا حصاد ألسنتهم"، لذلك فإن العقلاء يؤثرون الصمت باعتباره طريق السلامة، ولو أتيح لهم أن يخيطوا أفواههم أو يقطعوا ألسنتهم لفعلوا بالتأكيد، وأنا أعرف صديقاً عاقلاً لا يتحدث إلا بلغة الإشارة معظم الوقت، يهز رأسه كالبندول موافقة أو رفضاً، يستخدم حواجبه وعينيه كثيراً لإبداء الدهشة أو السعادة أو الحزن، وشفتيه لإبداء الامتعاض، ويكاد لا يستخدم أحباله الصوتية سوى فى حالة السعال، ومع ذلك فهو دائم الوقوع فى المشاكل بسبب زوجته الثرثارة.
وفى القانون أو السياسة يفسر الصمت عادة بأنه إما علامة للرضا والموافقة، وإما ضعف عن المواجهة، رغم أن الصمت فى تلك الحالة قد يكون جهلاً أو "تكبير مخ" أى لا مبالاة أو إهمال، وقد يكابر الشخص حين تجادله ويدعى أنه "عارف كل حاجة، وفاهم".. إلا أنه "يتقى بالصمت شر الكلام"، والحقيقة أنه يصمت عندما ينبغى أن يتكلم، ويثرثر حين ينبغى أن يصمت.
ورغم التسليم بمزايا الصمت التى لا جدال فيها، إلا أن تلك القاعدة الذهبية لا تنطبق ولا ينبغى أن تنطبق حين يتعلق الأمر بحق من الحقوق، فهناك قاعدة ذهبية أخرى تقول: "إن الساكت عن الحق شيطان أخرس"، وبالتالى فإن الصمت فى هذه الحالة يكون جريمة، فكما أن الاعتداء على الحق يكون بفعل إيجابى من جانب المعتدى، فإنه يكتمل بفعل سلبى من جانب الضحية، وكلا الفعلين يكونان الركن المادى لهذه الجريمة، ولا بد أن حساب الضحية يجب أن يكون أشد عسراً، لأن نية المعتدى هى اغتصاب الحق، وبالتالى فهى مبرر للفعل، ولكن ما هو مبرر الضحية؟.
إن الصمت على الجرائم التى ترتكب فى الأراضى الفلسطينية المحتلة هو فى حد ذاته جريمة نكراء، بل هى أشد قبحاً من الجرائم الأصلية، وقد حاول العقلاء من طائفة "الوقوعيون" أن يعللوا ذلك بأنه الحكمة والواقعية، على اعتبار أن المعتدى يمتلك قوة جبارة عاتية، وليس علينا إلا أن نتحمل فى صمت، ونتجمل بصبر أيوب، لعل الإعياء يتملك من ذلك المفترى فيتوقف وحده وكفانا الله شر القتال، أو لعل الله يستجيب لدعاء الأرامل والثكالى فيرميهم بحجارة من سجيل، أو لعل المجرم الصهيونى يصاب فجأة بفيروس السلام الذى تفشى على الجانب العربى وحده بشكل وبائى.
واتباعاً لحكمة "ما قل ودل"، تقتصر التصريحات الرسمية فى الجانب العربى على الشجب والاستنكار، حتى اعتاد العدو وجنوده على حكمتنا، واعتدنا على وحشيتهم، واستقر الوضع على ذلك، وذلك هو الاستقرار المطلوب فى الشرق الأوسط، وقد تكرر اتباع نفس الحكمة تجاه ما أسماه بوش "الحرب على الإرهاب"، تلك الحرب التى لا يبدو لها هدف واضح حتى الآن سوى العرب والمسلمين، فكانت "ما قل ودل" هى فصل الخطاب فى الموقف العربى، فنحن نؤكد أن الإسلام ضد الإرهاب، ونكرر ذلك كل يوم باقتضاب بليغ، فإذا لم يستمع السيد الأمريكى اليوم، فمن المؤكد أنه سيسمع غداً، أما إذا لم يستمع غداً فلا جدال فى أنه قد يستمع بعد غد، والصبر مفتاح الفرج.
ولم يختلف الأمر كثيراً مع التهديدات المتتالية بضربة قاصمة مدمرة للعراق، فقد اتخذ العرب كعادتهم موقف الحكيم الشرقى الوقور، وأرسلوا إشارات مقتضبة بما قل ودل تشير إلى أن ضرب العراق أمر غير طيب وغير مرغوب فيه، مع رجاء حار من الأعماق والقلوب الطيبة أن يستمع السيد بوش لنداء الحكمة، فإذا لم يستمع اليوم فمن المؤكد أنه سيسمع غداً، أما إذا لم يستمع غداً فلا جدال فى أنه قد يستمع بعد غد، والصبر مفتاح الفرج، ولما وقعت الواقعة هرع الجميع إلى المساجد يستمطرون اللعنات على الأعداء ..
ومن غرائب الطبيعة العربية البديعة، أننا أمة تراثها الكلام، وديوان الشعر هو جوهرتها المصونة، أى أنه من المفترض أن الكلام لعبتها، ونحن بالفعل نمارس ذلك بشراهة نحسد عليها، بل وبشراسة فيما بيننا، بينما فى اتجاه الآخر نكتفى بممارسة صمت وأدب القرود، فلا يصدر صوتنا سوى بخجل العذارى، ونخاطب الآخر بشكل اعتذارى حتى حين نطلب منه ما هو حق لنا.
ومن الصعب إن لم يكن من المستحيل أن نجد تفسيراً مريحاً لتلك الظاهرة المحيرة، فهل هو مثلاً أن أمورنا هانت علينا فهان أمرنا على غيرنا؟، هل نحن أمة قد ابتلاها الله بداء الخرس؟، أم أن المسألة أعمق من ذلك، فهل تكون مثلاً دعوة المقهورين فى الزنازين ومعسكرات الاعتقال، أم صراخ أبناء الفقراء الجوعى، هل هى لعنة الأندلس ما زالت تلاحقنا فتلجم ألسنتنا؟، لماذا ارتضينا جميعاً دور الشيطان الأخرس؟ ألم تنبت ألسنتنا فى حلوقنا بعد، أم ترانا لم نتعلم بعد أصول الكلام؟ إن ما قل ليس دائماً يدل، وربما دل على غير ما يريد الناطق، إذ لا بد للعالم أن يسمع صوتنا واضحاً قاطعاً بغير لبس أو إضغام، فهذا عالم لا يفهم لغة الإشارة، ولا يفسر الصمت والتردد سوى باعتباره ضعفاً وقلة حيلة، وبالطبع ليس المقصود هنا هو مجرد استعراض طبقات أصواتنا، والكلام لمجرد إثبات المقدرة على الكلام، وإنما المقصود هو أن تكون رسالتنا واضحة قوية ومؤثرة، وأن يتبع الفعل القول، وأن نكف عن الهمس بأشياء فى الغرف المغلقة، والتحدث بغيرها على الملأ، لم تعد الأوضاع تحتمل هذا الترف وهذا الخرف.
وبئس من ظن أنه قد اتقى بصمته شر المقادير، لأنه بصمته يستدعى شر هذه المقادير، وخاب من خدع نفسه بحكمة مزيفة هى فى حقيقتها حيلة من لا حيلة له، بل هى خزى وعار، فها نحن فى مواجهة لحظة الحقيقة، حيث بعدها إما نكون أو لا نكون، ولننظر إلى عدونا الذى ملأ أسماع الدنيا بباطله الذى يدعيه حقاً له، بينما حولنا صمتنا وحكمتنا إلى إرهابيين وقتلة وسفاكين فى نظر العالم كله، واعلموا أنه كما أن "فلسطين" كانت الفريسة الأولى، فإن "العراق" لن تكون الأخيرة.
وقبل الختام أجد تلك الذكرى تلح على مخيلتى، حين وقع الاعتداء الثلاثى على مصر، وتفجرت أنابيب البترول فى الأراضى العربية، وخرجت المظاهرات واحتشدت مراكز التطوع، وسمعت عواصم العالم كله صوتنا واضحاً قوياً قاطعاً: "سنقاتل.. سنقاتل"، واشتد عود كلماتنا بصدق أفعالنا، وكذلك لا يمكن أن أنسى حين كنا نقاتل فى الضفة الشرقية لقناة السويس وصدر قرار وقف ضخ البترول العربى، حيث كان بمثابة جيش أضيف إلى جيوشنا وأجبر أكبر عواصم العالم على الإنصات إلينا واحترامنا.
ربما تتغير الأحوال إذا توقفنا عن حديثنا للداخل وركزنا جهودنا لمخاطبة العالم كله باللغة التى يفهمها، وتلك اللغة لا يمكن أن تكون لغة الخرس، وإنما لغة القوة والوحدة، لغة شعوبنا العربية التى لا ترضى ولن ترضى بالهوان.
• عضو اتحاد الكتاب المصرى.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة