كلما جلست على ضفاف النيل أتشمم عبيره، ينبعث من الماء العذب، ولو أطلت النظر للماء أرى لونه الخلاب الذى يشرق من بشرته الملساء، كلما نظرت إلى غصون الشجر، رأيت خفة خطواته فى أوراقها المتمايلة بفعل النسيم، وأن أشرقت شمس الصباح، أرى لمعة عينيه حين يرانى وتتلألأ شفتاه الملساء ذاكرة اسمى، وفى غروبها أرى نظرته الساكنة حين أرحل، وفى ابتسامة الأطفال أرى مزاحه، وفى عبوثهم أرى غضبه، من السماء استمد شموخه، ومن الأرض عرف ثباته، كما النخيل لا يهتز ولا يميل وأن يسقط من عرقه حبات فهى حلوة كالشهد مسكرة كالخمر، حر الصيف يعطيه لونا يذوب من رؤية الحجر، وبرد الشتاء يعطيه صلابة تخشى منها الجبال، فريد هو، لم أرى مثله.
راودتنى أحلامى عنه، فراودته عن نفسه ولكن فى الخفاء، مستترة خلف رداء العفة الذى طالما استترت وراءه أحلام واندثرت وسارت رفاة، مر أمامى فى خفة وكبرياء وشموخ، فظننت نفسى أتمنى رشفة من خمرة شفتيه، أو لمسة تدع أصابعى تحظى برقة وجنتيه، ويطول ليلى فلم أجد أمامى غير أنى أنظر للسماء فأجد وجهه يعتليها ويضىء أرجائها وأفيق لحظة فأجد أنه القمر.
يغار ساقى الخمر منه ويظن أن كؤوسه قد فرغت، وتغار بائعة الزهور من عبيره، وتجد أن أزهارها قلما عاشت ذبلت.
وأغار أنا من حلم يداعب عينيه، ومن قميص يرتديه فيحتضنه بين ذراعى، ومن ماء يحتسيه فيملأ فمه، ومن نسيم يطوف حوله وهوائه يدخل إلى صدره، ومن ثرى يعفر قدميه ويحتويها.
فى وصفه الكثير والكلام قليل، ولو غاب عن عينى يوما لا أدرى كيفما الحياة تسير، ولكن هناك شىء يجعلها تسير فهو منك يا مصر، منك أنت، عبيره فى ضفاف نيلك ولونه منه، خفته خفة غصونك، جبينه قمرك ووجهه من نهارك، شموخه وثباته، سماءك وأرضك، حلوه من خيرك وغضبه غيرة عليك، نعم وجدته فى ربوعك، فى طرقاتك، فى هوائك ومن مائك نسيمك يتخلله برفق وثراك يحتوى قدميه، أحببته منك، وأحببته إليك، فلم أكن أعلم أنى أحبك هكذا حتى أحب فيك حبيبى.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة