الأمية والفقر وجهان لعملة واحدة، هكذا تعلمنا من التاريخ، وتجربة مصر مع الأمية قديمة منذ الأزل، ففى عهد محمد على باشا كان عدد الذين يجيدون القراءة والكتابة لا يتجاوزون 1% فعكف على تعميم فكرة التعليم على الشعب، واستمد الأفكار النورانية من الغرب وتحديداً من باريس، فأوفد بعثات من الأزهر لاستنباط أكبر قدر مما وصلوا إليه، ولم تكن مصر تعرف سوى الأزهر والكتاتيب وحول أعمدة الجامع العتيق يلتف الدارسون حول شيخهم سنوات، فإذا مات اعتلى المقعد أكبر الدارسين سناً، وهكذا تدور عجلة الأعمدة.. وكل دارس على منهج سيده ومجرد النقاش فى اختلاف وجهات النظر يترجم على أنه تمرد وخروج على اللائق لا يقبله الأزهر أو الشيخ أو حتى مريديه.. استطاع محمد على وورثة حكمه أن يرتقوا بالتعليم وتعمم التجارب على المديريات الإقليمية بدلاً من حصره فى أروقة الأزهر الشريف فقط.. وبدأ حجم الأمية يتقلص حتى رأيناه فى مطلع النصف الثانى من القرن الماضى 60%، وهذه نسبة كانت مطمئنة، وعند بداية القرن الواحد والعشرين رأينا الأمية عند حاجز الـ 30% وتقلصت الآن إلى 20% بعدد 15.8 مليون أمى منهم عشرة ملايين من النساء، وهى نسبة جرانيتية استقرت على وضعها منذ عامين دون تناقص، والمرجعية فى ذلك إلى نسبة التسرب من التعليم فى المراحل الإلزامية لارتباط الأسر بعمالة الأطفال فى الورش والحقول والخدمات المعاونة فى الأعمال الحرفية، أيضا نسبة الارتداد للأمية لحصول المتحرر على شهادته، وعدم استكمال طريقه فى التعليم، كل هذه عوامل أدت إلى ثبات النسبة المخيفة التى نرى الأمية عليها.
فى ظل التوسع العالمى فى شبكات التواصل الاجتماعى عبر الفيس بوك واليوتيوب من خلال الإنترنت، واشتراك ما لا يقل عن 20% من الشعب المصرى فى هذه الميزة العالمية يلحق بنا وصمة العار أن نجد أميين بهذا العدد.
وللقضاء على الأمية أمامنا عدة تجارب، أهمها تجربة بعض البلدان الفقيرة التى جمدت التعليم عاماً كاملاً أطلقت عليه عام الحرب على الأمية، وتحول الجميع إلى معلمين يدرسون لأسرهم أو جيرانهم أو أقاربهم، والتخلف عن هذا الواجب الوطنى جريمة فى حق الدولة، ونجحت هذه التجربة فى بلدان عديدة محت الأمية، وقضت على الفقر، وارتقت بالفقراء والمتحررين من الأمية إلى طبقة متوسطة مرموقة.
ولدينا تجربة ثانية قامت بها دولة الإمارات العربية الشقيقة بتوجيه مدخرات الدولة لمحو أمية آخر مواطن سيحتفلون بها قريباً، وعلينا أن نتعرف أيضاً على هذا النموذج.
لا أحد يستطيع أن ينكر فشل نظام مصر السابق فى محو أمية كل المصريين، وإن كانت التجربة أفضل من عدمها ولكن ليست كافية.
فمع أنوار ثورة "25 يناير" المجيدة؛ علينا أن نضع الأمية على جدول أعمال الانتصارات التى يجب تحقيقها ويلمس المواطن فارقاً حقيقياً ويبارك كل الخطى، حتى لا نعطى فرصة لأى أحد أن يقلل من أعظم ثورة شهدها التاريخ المصرى منذ سبعة آلاف عام.
وأميل إلى تجربة تجميد التعليم عاماً كاملاً ونستفيد من مدخرات الوطن فى محو أمية آخر مصرى فى جدول معين وملزم حتى نفيق لإصلاح شأن التعليم كله بعد ذلك.
إن الإصلاحات التعليمية كفيلة أن تضعنا على خارطة طريق الدول المتقدمة صناعياً ونخرج من نفق الرقم 111 الذى ربطنا عليه النظام السابق سنى عديدة، وكدنا أن نرتد إلى الرقم 122 مرة ثانية لولا عناية الله والثورة الشبابية التى أضفت قواتنا المسلحة اللون الأبيض عليها، فلولا قواتنا المسلحة لأضحت ثورة حمراء ودموية ولذهب ضحيتها ملايين البشر.
علينا أن نعينها على إكمال الطريق ومواصلة المسيرة ووضع الحلول أمام الأزمات والمعوقات. ونجاهد فى صنع هذا الوطن وكأنه يولد من جديد.. والهدم أفضل من الترميم أحيانًا.
* نقيب المحامين ورئيس اتحاد المحامين العرب