أذكر فى إحدى زياراتى للخرطوم، وكنت أجلس بصحبة عدد من الكتاب الشباب فى إحدى الحدائق العامة، أن أتى شاب فى منتصف الثلاثينات، وجلس قريبا منا بعد أن رفع يده بتحية باردة، ثم أخرج من حقيبة جلدية قديمة كان يحملها على كتفه، عددا من الأوراق المملوءة بالحبر، بدأ يطالعها ويخط عليها شيئا بقلم الرصاص، استنتجت على الفور أنه كاتب أو شاعر يعمل على نص ما، ويقوم بالإضافة أو الحذف، ولذلك ابتعد عنا، برغم أن من يجلسون معى كانوا يعرفونه، ورددوا اسمه، وهم يردون على تحيته الباهتة. سألتهم فى همس عمن يكون ذلك المنعزل الذى لم يرد الجلوس معنا، ولا أبدى ترحيبا بى خاصة، وكنت ضيفا على البلاد، أعود فى كل عام لعدة أيام وأمضي.. جاءنى الرد سريعا من كل المحيطين بى، بأنه كاتب قصة مغمور، لكنه يضع ماكينة ماركيز.
كانت تلك أول مرة أسمع فيها بذلك المصطلح المشتق من مهنة الميكانيكا الممارسة فى بلادنا. حين تبرك عربة مثل المازدا أو الأوبل، يستبدلون ماكينتها بواحدة من طراز تويوتا القوى، أو توضع ماكينة المرسيدس فى جسد الفلوكسواجن التى لا تملك إمكانات المرسيدس ولا رحابته، لينتقل المصطلح بعد ذلك إلى البشر، ويطلق على الذى يتصرف بأكبر من إمكاناته، كأن يمشى فرد عادى من أفراد الجيش فى حيه الشعبى الفقير، مشية ضابط كبير من ذوى الرتب، ويصيح فى الناس، صياح ضابط، كأن تتحول بائعة شاى فقيرة أمام مدرسة ابتدائية، إلى مديرة للمدرسة، فى وجه التلميذات، وكأن يصبح خفير مثل ابن عوف الذى كان يحرس بوابة مستشفى بورتسودان الساحلى، فى أواخر ستينيات القرن الماضى مديرا للمستشفى لا يسمح حتى بدخول الأطباء العاملين فيه. كان صاحبنا الكاتب المغمور، يضع ماكينة جابرييل جارثيا ماركيز، الكولومبى العظيم، وينظر إلى برغم فارق السن والتجربة، نظرة من أعلى هرم من أهرامات الرواية. خبرنى الجلساء بعد ذلك، أن كاتب القصة، نبح كثيرا فى إبداعات كتاب عالميين مثل يوسا وكونديرا، كان يجد فى كل رواية يقرأها عيبا خلقيا، مشوها لها، وفى كل قصيدة بيتا إما من القش أو الصفيح، وتحدث فى هذا الصدد عن كتاباتى خاصة، واصفا إياها بأنها كتابة هوائية، وحين سئل عن ذلك المصطلح، قال إنه يعنى إنها معلقة فى الهواء لأنها كتبت بلا أساس، فلا أساس لأعمال روائية كتبت فى بلاد مرتاحة، ولم تتغبر، أو تركب الباصات البشعة، ولم تصطلِ بهذا الهجير.
لم أهتم بالكاتب كثيرا، لكن مسألة وضع الماكينات تلك أعجبتنى، صرت أتابع الناس فى كل مناسبة تجمعنى بأحد، لأتعرف على الماكينات التى يضعونها.. مثلا ذلك الوالى الذى أصدر أمرا بمنع النساء من العمل فى محطات البترول، كان يضع ماكينة رئيس جمهورية، وفنى المختبر الطبى الذى عمل معى سنوات، وتحدث عن شهادات لا يملكها، ومؤتمرات عالمية لم يحضرها حقيقة، كان يضع ماكينة رئيس جامعة، وذلك العاشق الذى حاولت علاجه من إدمان حبيبة هجرته، ولم يشف مطلقا، كان يضع ماكينة روميو، والأخت م السكرتيرة فى إحدى الإدارات، تضع ماكينة مديرها، وهكذا استطعت أن أجد لكل جسد، ماكينته التى يضعها، وقوة تلك الماكينة وتأثيرها والمدة المتوقعة لتوقفها عن العمل. وفى عهد الثورات هذا عثرت على كثيرين جدا، يضعون ماكينات رؤساء ووزراء وخطباء، ومسئولى أمن، ومنذ عدة أيام اقتحم مكتبى بخشونة، رجل ملتح، صرخ فى وجهى حالما لمح ذقنى الحليقة: أين لحيتك يا هذا؟
كان بلا شك يضع ماكينة بن لادن التى أضحت الآن بلا جسد، ومن المتوقع أن يلتقطها الآلاف حول العالم، ويضعونها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة