أحدث زلزال الثورات العربية حالة انقسام حادة بين المثقفين العرب، فأيد البعض هذه الثورات وهاجمها البعض الآخر، فيما وقف فريق ثالث فى صفوف المتفرجين حائرا غير متيقن مما يحصل حوله مترقبا نهاياتها والنتائج التى ستؤول إليها.
الفريق الأول كتب، أو تكلم، مدفوعا برياح التغيير التى تهب على الأرض العربية، واستطاع أن يلمح فى الاندفاعة الجماهيرية المليونية المطالبة بالحرية والتغيير خلاصا من حالة الاستكانة التى أصابت الفرد والمجتمع بسبب التسلط والفساد وخنق حريات التعبير، وأن يبصر فى الهتافات والشعارات المرفوعة أملا غامرا بمستقبل واعد لهذه المنطقة من العالم التى طال انتظارها لنسيم الحرية.
وأنا أرى أن ردة فعل هؤلاء المثقفين طبيعية ومتوقعة انطلاقا من الدور الذى يليق بالمثقف الذى يقف على مسافة من السلطة ويدافع عن المغلوبين والمقموعين الذين لا صوت لهم، ويكشف للسلطة أخطاءها وينادى بإشاعة العدل والحرية ورفع الظلم عن البشر بغص النظر عن انتماءات هؤلاء البشر الدينية والقومية والطائفية والمذهبية والفكرية. إن الحرية هى المعيار، وما دامت الشعوب تطالب بالحرية وهى تتظاهر سلميا، وتتلقى بصدورها العارية رصاص الأنظمة، فلا بد أن ينحاز المثقف إلى جانبها ويعلن اصطفافه مع أهل الحرية ضد أهل الظلم والطغيان والفساد.
الفريق الثانى من المثقفين، الذى كشفت عنه الاحتجاجات والانتفاضات وهبوب ريح الثورات العربية، يدافع عن مصالحه ومكاسبه التى تتعرض للأخطار، فهو رهن نفسه طوال عقود من الزمن للدفاع عن الأنظمة والتسبيح بحمدها وتلقى عطاياها، ورغم أننى لا أنظر إلى هذا النوع من النخب كمثقفين، لهم أدوار تنويرية مدافعة عن القيم الإنسانية الأساسية، إلا أننى أستطيع أن أفهم الجذور المصلحية التى تصدر عنها مواقفهم؛ لقد كانوا يرهبون سيف المعز ويتمتعون بذهبه، والمعز الآن يترنح فى مهب هتافات المتظاهرين فى الشوارع، فلندافع عنه لعله يصمد! لكن ما لا أفهمه فى مواقف هؤلاء "المثقفين" هو هذه الركاكة التى تشيع فى خطابهم: حديثهم عن ضرورة الاستقرار فى مقابل الفوضى، عن القوى السلفية الرجعية التى ستمسك بزمام الأمور بعد سقوط الأنظمة الغتيقة، وكأن أنظمة الفساد والعسكريتاريا كانت يوما من الأيام حاضنة للتقدم والتنوير وتأسيس مجتمعات مدنية تحكمها القوانين والدساتير التى تشيع روح المساواة والقانون والحرية! لقد تجوّف خطاب هؤلاء، الذين يطلون علينا من الفضائيات ليقولوا كلاما مكرورا عن المؤامرات الخارجية والإمارات السلفية المتطرفة، كأن الشعوب عمياء إلى هذه الدرجة لتضحى بحياتها مستبدلة قمعا بقمع واستبدادا باستبداد.
المشكلة فى خطاب هذه الفئة من "المثقفين" أو "الأكاديميين" أو العاملين فى الحقل الإعلامي، الذين يستخدمهم نظام العقيد القذافى الذى يطلق صواريخه على "شعبه" (هل بقى لديه أى شرعية تخوله حكم هذا الشعب بعد أن واصل قتله وتدمير مدنه وبلداته؟)، أو يجيشهم نظام الرئيس السورى بشار الأسد الذى أرسل قطعات الجيش لتخمد أنفاس السورييين الذين ما عاد فى إمكانهم احتمال كل هذا الظلم والفساد والاستبداد الموروث كابرا عن كابر، أنه ضعيف وواه كخيوط العنكبوت، لا يمتلك أى مصداقية، وركاكته تقترب من حدود الفضيحة. يظهر من تسميهم الفضائيات "مثقفين" و"فنانين" ليدافعوا بصفاقة عن القتل والقمع باسم الاستقرار وبحبوبحة العيش التى تعيشها الشعوب، فعن أى بحبوحة عيش وأى استقرار يتحدث هؤلاء الذين تحولوا رجالا ونساء "جوفا" كما يقول الشاعر البريطانى تي. إس. إليوت؟ هل بلغ السقوط، والدفاع عن ذهب المعز وأعطياته، حد وصم شعوب بكاملها أنها "مندسة" "تتلقى دعما من الخارج"؟ هل يعقل أن شعبا يطالب بالحرية والإصلاح يقتل بدم بارد ويتهم بعد ذلك بالخيانة؟ هذا سؤال أوجهه إلى الفنان السورى دريد لحام، وصحبه من الصارخين على الشاشات بمديح النظام.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة