معصوم مرزوق

يــا قــدس!

الأحد، 15 مايو 2011 09:22 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
(1)
حين التفت إليها، كانوا يسرقون الطريق من تحت أقدامنا، بينما تمضى مواكب الدراويش، يدقون دفوفهم، يؤرجحون رؤوسهم والمباخر، وخلفهم يتقاطر الصبية، وأمامهم كلب يبول…

أعجب لأمرك - أنت أيتها المحبوبة - لا زلت على النهر تغسلين شعرك، لا زلت تدندنين بأغنيات العرس وتحلمين بليلة الحناء..
قلت - للتى أتعبتها معى:
- لا زال فى القربة ماء… أشربى..
عقصت ضفيرتها، قالت وهى تشبك " بالبنسة " قصتها :
- رويدك يا.. أقلعت عن معاقرة الجنون..

(2)
خلعت عنى حذاء الجيش الثقيل ذى العنق الطويل.. أخذته إلى صدرها.. احتضنته بإشتياق.. منحته قبلتين.. حدجتنى متفرسة قبل أن تقول :
- اشتاقت ظهور الخيل للرجال..
أحنيت رأسى، فاستدارت ثم ارتخت على الأريكة هامسة :
- وأشتاقت النساء..!
صفقت صفقتين، فأتى مجلجلاً بضحكته:
- شبيك لبيك.. عبدك وملك إيديك..
أيقنت أننى لا زلت فى الزمان، فهتفت بها:
- أنا لها.. أنا لها …

لم تستجب، فقط مطت شفتيها ثم قهقهت، بينما الغاز الطبيعى يتصاعد من فوق رأسه بخاراً أسود..

حيرتنى معك!!
لم أدع جزيرة فوق المحيط الأجنبى إلا واشتريتها لك، وباسمك الحبيب أودعت فى البنوك الأرصدة.. لماذا أنت يا فيروز تنشدين:
- ياقدس…!
تتعقد المسائل بيننا كلما أتى لنا صوتك من بعلبك.. أضطر أن أصفق صفقتين، فيأتى مجلجلاً بضحكته، فآمره :
- فوراً وقبل أن يرتد طرفى أريد عرش " أورشليم " …!
لكنه هذا الخصى يتلكأ.. أربعون عاماً يتلكأ.. والمحبوبة الحمقاء تسخر وتبكى وتلطم..

(3)
- لأجلك يا مدينة الصلاة.. أصلى..
حشدت كل أحبال صوتى، ضخمت حنجرتى، كززت أسنانى، هتفت فى إعتداد :
- عائدون…
تصورت أن القدس سوف ترتعد، وأنهم سيقفزون فى البحر فوراً، وجدتها لا زالت تبتسم ساخرة، ثم قالت فى هدوء:
- دمروا مفاعل العراق!!
ولم أكن أظن صوتى قوياً لهذه الدرجة…!!

وقعت شيكاً لشراء بطاطين اللاجئين لفصل الشتاء، ونشرت فى كل الصحف خبراً يفيد بأن قاعة الهيلتون الكبرى سوف تشهد مؤتمراً ساخناً.. لكنك - أبداً - يا فيروز صوتك فى كل المرايا وكأنه ألف لسان يهزأ بى.

مررت بها عبر الدروب القديمة، كادت تتوه منى رسماً بين الخطوط الكوفية … المجنونة خلعت سروالها "الجينز"، وانطلقت بين الحوارى تصرخ مذعورة..
عبثاً أقول لها:
- الخيل والبيداء تعرفنى…
طاردتها خشية أن تضيع ملامحى، فوجدتها فوق صخرة تعلم الأطفال حروف الأبجدية.. قلت لها خائراً:
- السماء للعقاب.. النهر للتمساح.. الغابة للأسد.. وأرضنا للروس والأمريكان .
نهضت واقفة وقد أشعلها الغضب، أرعدت فى أذنى :
- واإسلاماه.. !
ثم مشت شامخة الرأس، وخلفها الأطفال يرددون :
- يا قدس.. يا مدينة الصلاة..

(4)
أنا لم أكفر بالمتنبى والجاحظ، ولكن "روسوس" و "خوليو" يناسبان أسلوب حياتى.. كيف أعاشر هذه الحجرية التى لا تمل الإنصات لسيد درويش ؟!..
ينبغى أن أطلقها بالثلاثة، كى أودع النكد وفلقة الدماغ..

مللت من تكرار عذرى :
- أنا يا امرأة لا أبتغى سطرين فى كتب التاريخ، لقد أصبح هذا التاريخ صداعاً.. لكل رجل قدره، وهذا قدرى..

من المؤلم أن تكون المحبوبة مثقفة وواعية، أملأ الكأس نفطاً لها فتهبب به وجهى، وتشد شعرها.. مجنونة، وسر دائها فيروز..

استشرت أمهر أطباء الشرق والغرب، وعلمت بنصيحة أحدهم، أشتريت لها نموذجاً من الذهب للمسجد الأقصى، فباعته واشترت بثمنه المزيد من الإسطوانات التى فيها فيروز تغنى:
" يا مدينة الصلاة" …
أسرحها بمعروف قبل أن تفعلها معى، فهى تحرض الأولاد ضدى، تحتجز فى صبر زفيرها، لكننى أحبها.. بوشمها العربى وعنادها وصبرها.. تذكرنى بشيئ أو بأشياء غائرة فى وجدانى وفوقها تراكمات …

أفهم دوافعها، ولكن يعذبنى أنها لم تفهم حتى الآن حالتى.. ومع ذلك - إرضاءاً لها - أشتريت أحدث أنواع الجياد من أمريكا، لكننى حتى الآن لا أفهم صهيلها لأنها ترطن بغير العربية، كما أنها أسقطت معظم أبنائى من فوق ظهورها، اضطررت فى النهاية أن أكومهم جميعاً فى الأصطبل القديم وقلت لنفسى:
- من فات قديمه تاه …
حملت مئات المجلدات من التاريخ القديم، ووزعتها على كافة المؤتمرات الدولية، لم أفهم لماذا احمرت العيون الزرقاء، وارتعدت الرؤوس الشقراء ؟..
ماذا بمقدورى أن أفعل يا امرأة ؟ … سوى أن أشحذ نرجيلتى بالمزيد من الدخان الأزرق كى أستعيد القدس والتاريخ و …. لعنة الله على فيروز …

(5)
صفقت مرتين … أتى مجلجلاً.. قلت له :
- أريد حقنة الطريق..
وأسلمته وريدى حيث غرز نابه، ودارت النشوة برأسى:
(تقاربت عروش الملوك.. تداخلت.. أصبحت صهوة لفارس.. تراجع الجوع فى القرى.. استسلم المترفون لقبضة الرياح.. التأم النسيج العربى.. توارى الدراويش فى الجحور.. تمزقت الدفوف.. انعقد لواء المجد لصانعى السيوف والخناجر.. ماتت نبرة الخوف فى الحناجر.. مات كل صوت عدا صوتها - فيروز - وخلفها الأصوات تغنى : يا قدس)…

صفقت مرتين و.. أسلمته وريدى … النشوة برأسى :
(كان صلاح الدين، وكانت حطين، وكان الزحف يدمدم باسم الله، وكانت خيول القادسية، كان خالد وابن الوقاص، وكانت حروف النار تنادينى، وكان القلب المتوحد ضخاخاً فى الشريان العربى، وكانت تجتاز سدود الفتنة، عقم النظريات.. وكان الله يدك حصون المنبوذين، وكانت فيروز تغنى : يا قدس).

صفقت مرتين و.. أسلمته وريدى … برأسى :
( فى المساء جاءت.. مغسولة فى نهر الأردن.. متعطرة بتراب الخليل.. جففت فى جسدى النزيف.. حملتنى فوق ظهرها للأقصى، وهناك كنت إماماً للفرسان.. وفوق كل المآذن كانت العيون يقظة.. سجدنا وعيوننا على السيوف.. وفى خشوع جلسنا نتمتم:
- صدق وعده.. نصر عبده.. هزم الأحزاب وحده..
(6)

أكره اليقظة.. لا أشعر بوجودى إلا فى غيابى.. تصفحت جرائد الصباح فى لهفة.. تزاحمت السطور.. تكومت :
(لبنان فى نار الجحيم.. ليلى بالعراق مريضة.. أسعار الذهب.. مؤتمر الأوبك.. الأنيميا فى جنوب السودان.. ملاهى ليلية.. بريد القراء.. تفسير جديد لقرار مجلس الأمن رقم 242.. كلمات متقاطعة.. كلمات للذكرى.. كلمات خالدة.. كلمات الوزراء فى مؤتمر آخر … كلمات متقاطعة.. كلمات بلا معنى.. كلمات.. كلمات.. كلمات..)

وضعت كوب اللبن أمامى ولم تنصرف كعادتها.. دسست رأسى بين الأخبار، رفعت صوتى قارئاً لإعلان عن مصيف أوروبى يناسب أسلوب حياة الأمراء، وإعلان آخر عن عرض للأزياء ينظمه "كاردان" ويخصص دخله لأسر الشهداء و… قاطعتنى فى غضب:
- اشتاقت ظهور الخيل للرجال..
نظرت إليها مستعطفاً، فأغمضت عينيها وأردفت حالمة:
- واشتاقت النساء…
صفقت بيدى مرتين… ثلاث مرات… أربع.. عشرات المرات… كانت تقهقه وتقذفنى بالأكواب وتهبب وجهى بالنفط، بينما فيروز تغنى :
- يــا… قدس …!!

• عضو اتحاد الكتاب المصرى








مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة