د.أنور مغيث

لا مفر من الدولة المدنية

السبت، 14 مايو 2011 07:44 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
ماحدث فى إمبابة كان مهولاً وصادماً، لأنه عصف بكل ما تعودنا عليه من حواديت وأحكام كنا نقولها لنطمئن أنفسنا على صلابة مصر، فلقد بدا المجتمع المصرى هشاً قابلاً للتردى والتفكك، وميالاً لاستنفاد طاقته فى إيذاء نفسه.

وسواء كانت هذه الأحداث بسبب إشاعة أو بسبب واقعة فعلية، فهذا لا يغير شيئا من فداحة الأمر ولا يبرر ما حدث.

يدفعنا ما حدث إلى أن نقول مرة أخرى إنه لا مفر من الدولة المدنية، فلقد تفاقم الاحتقان الطائفى بسبب تلكؤنا المستمر فى ترسيخ دعائمها. ولكن هل الدولة المدنية هى كلمة السحر التى ستهب السلام للنفوس، وتمنح الجموع الحكمة والرزانة؟ نقول نعم، لأنها تقوم على حقوق المواطن وفى مقدمتها حرية العقيدة، وتجعل مؤسسات الدولة تقوم بصيانتها. فجميع الأديان لا تحب الخارجين عنها وتعدهم بأقصى العقوبات وتصب عليهم اللعنات؛ فليس الشيخ أو البابا أو الحاخام هو الذى يمنح المواطنين حرية الاعتقاد، ولكن هى الدساتير والقوانين الوضعية ومؤسسات الدولة، التى تغل يد أى هيئة أو جماعة عن إيذاء الأفراد وتترك لهم فقط حرية صب اللعنات.

إن تعداد مصر يزيد قليلاً عن فرنسا أو ألمانيا. وفى المجال الاجتماعى تتقاطع مصائر الأفراد ويتلاقون على الخير أو الشر، فقد يحدث فى فرنسا أن يغتصب شاب عربى فتاة فرنسية أو أن تحب فتاة تركية شابا ألمانياً أو العكس، رغم ذلك لا نرى استنفارا ولا مساجد تهدم وكنائس تشتعل. وذلك لأن هناك قانونا يسرى على الجميع ودولة تصون حريات مواطنيها وتحميهم من أى تهديد.

رغم هول ما حدث مازال يجرى على ألسنة البعض وأقلامهم انتقادات ترى أن العلمانيين، ومن لف لفهم كما يحبون أن يقولوا، يستغلون مثل هذه الأحداث سياسياً، ويضخمونها لكى يدفعوا المجتمع دفعا إلى قبول الدولة المدنية، ولكن حينما يقوم فريق أو تيار بالمبالغة والتضخيم فى أمر ما، طمعا فى استفادة سياسية، فى العادة تأتى الأيام لكى تكذّب ادعاءاته وتكشف له أن الأمر أهون مما كان يصوّر. أما فى هذه الحالة فقد جاءت الأيام والسنين لتؤكد بصورة مأساوية كل ما حذّر العلمانيون منه على مدى سنوات حتى انتقلنا من تعبير "حادث فردى عابر" إلى تعبير "حرب أهلية".

أما عن دفع المجتمع إلى الدولة المدنية، فليس العلمانيون هم من يدفعون، ولكنه العصر الذى نعيش فيه، والذى يلزم الدول باحترام حقوق مواطنيها وعدم التمييز بينهم. وهذه الحقوق ليست أجندات أجنبية كما تحاول النظم المستبدة دائماً أن تصور الأمر، ولكنها حقوق مشروعة يخرج الناس فى كل المجتمعات ومن كل الثقافات للمطالبة بها ويضحون فى سبيل ذلك بأرواحهم وبدمائهم. لقد أصبحت تضحيات شهدائنا فى الثورة المثل الحى فى العالم بأسره على تطلع الناس جميعاً إلى الحرية، ولهذا لم يكن مصادفة أن يكون أول شعارات ثوار مصر وأهمها هو "الدولة المدنية"، والذى خطّوه فى لافتة عملاقة تنير ميدان التحرير طيلة أيام الثورة، ولكن هذا الشعار تحديداً هو الذى يواجه مئات الخطط التى تهدف لعرقلة تحقيقه.

فعندما كان يحدث أى اشتباك طائفى (الكشح، نجع حمادى، العمرانية، كنيسة القديسين، أطفيح، إمبابة، ونتمنى أن تكون النهاية) كنا فى كل مرة نعتقد أننا قد صلنا إلى سقف لا يمكن تجاوزه، وتبدأ المطالبة بالشروع فوراً فى تنفيذ وصفات العلاج: دولة المواطنة، عدم التمييز، تقرير العطيفى وقانون موحد لدور العبادة، تنقية مناهج التعليم.

ثم لا يحدث شىء، حتى يقع حادث آخر لنسمع من جديد نفس الكلمات: المواطنة، العطيفى، مناهج التعليم، وكأنها قد تحولت إلى تعاويذ ليست خطوات عملية تتخذ.

وشهدت مصر فى أعقاب الثورة مباشرة انحيازاً زائفاً ومصطنعاً من بعض التيارات إلى جانب الدولة المدنية التى طالب بها الثوار، فكان الكل مع الدولة المدنية. الآن تراجع الإخوان وصرح المرشد بأن صوت الديمقراطية والدولة المدنية لا ينبغى له أن يعلو على صوت الشرع والدين، أما قادة السلفية فقد جعلوا شغلهم الشاغل فى الأسابيع المنصرمة هو الهجوم على الدولة المدنية والدعوة الصريحة إلى الدولة الدينية، وكل ذلك فى محاولة لتأليب الرأى العام بهدف عرقلة إجراءات التحول إلى دولة مدنية.

هكذا تقف الدولة المدنية على باب مجتمعنا المصرى كضيف فى حيرة من أمره، فلا نحن نأمره بالانصراف ولا نحن نسمح له بالدخول!!!

لا نأمره بالانصراف لأن هذا سوف سيكون نوعاً من الانتحار الحضارى، حيث يدير المجتمع ظهره للحداثة وللعالم بأسره ليعيش فى نظام ينتمى لعصر عفا عليها الزمان.

أما كوننا لا نأذن له بالدخول فليس ذلك بسبب الفوضى التى تعم المكان، فالضيف هنا هو الذى يقوم بترتيب البيت، لكننا نتردد فى دعوته للدخول، بسبب سياسة المواءمات وتجنب السخط ومراعاة الخواطر، لكننا ندفع ثمن هذا التردد فى صورة حوادث عبثية ولكنها دامية متكررة، تصرخ فى وجوهنا: "لا مفر من الدلة المدنية".








مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة