كفانا الله وإياكم شر التطرف والمتطرفين، والذين إذا حلوا ببلد جروا معهم التخلف والفقر والانهيار والخراب، ولنا فى أفغانستان والصومال والعراق واليمن المثل والعبرة، وكلمة تطرَف تعنى الغلو والخروج بالفعل أو القول أو أى تصرف عن إطاره الطبيعى أو المعتدل. ومن ثم فإن هذا الوصف لا ينطبق - فقط - على من يغالى فى دينه، وإنما يمتد ليشمل كل من مغالٍ، كمن يغالى فى كل ملبسه ومأكله ومشربه.
فعندما يهدى أحد "رجال الأعمال" فيلا بملايين الجنيهات لمغنية، فهذا تطرف. وعندما يكتب كاتباً مرفهاً رواية ويتغزل فى جسد المرأة أو يتطاول على الذات الإلهية، فهذا تطرف يجافى أديان وقيم المجتمع المعتدلة. وعندما يتبارى أهل الفن فى السفور والحط من قيم المجتمع، فهذا أيضاً تطرف. عندما يتقاضى ممثل أو راقصة أو مغنٍ ملايين الجنيهات نظير التمثيل لساعة أو ساعتين ويتحول إلى رمز أو قيمة أو قدوة، فى حين يحصل العالِم أو الأستاذ الجامعى على عشرات الجنيهات ويُستهزَأ به، فهذا تطرف وانهيار مجتمعى، وخلل خطير لابد وأن يفضى إلى انهيار كامل وشامل...الخ.
لا يمكن لأى منصف أو عاقل أن ينكر حقيقة مهمة؛ وهى أن أغلب أهل الفن - وعلى مدى العقود الماضية - خرجوا بالفن والأدب عن إطاره المرسوم، حيث تحول الفن والسينما والغناء إلى تجارة رخيصة، أقرب إلى تجارة الرقيق الأبيض. ومن ثم فقد أصبح فى الغالب وسيلة هدم للشباب ولمنظومة القيم والأخلاق. فأغلب هؤلاء (كالممثلين والمغنيين والكتاب والمخرجين...الخ) لم تكن لهم من رسالة سوى هدم وطمس هوية هذا البلد العظيم بل الهوية العربية، بعد أن غرقوا فى ملذاتهم وشهواتهم، ودفعوا بالملايين إلى هاوية الخطأ، وأساءوا (بأعمالهم الرخيصة) أبلغ إساءة إلى القاعدة العريضة الشريفة لهذا المجتمع.
وهنا يحضرنى مثال حى عايشته منذ عامين مع أحد الزملاء السعوديين (وهو شاب سعودى غير ملتحى)، الذى كان يعمل معى فى ذات المؤسسة بالمملكة. فقد دخل على ذات يوم، وقال لى: لقد كنت فى القاهرة الأسبوع الماضى، وهذه كانت أول مرة لى أزور فيها مصر!! قلت لها ما رأيك فى مصر وشعب مصر، قال لى أرجو أن يتسع صدرك، قلت له: خيراً. قال لى، فى الحقيقة، "أنا كنت أعتقد أو أتصور أننى فور هبوطى لمطار القاهرة سأشاهد النساء والفتيات والناس بالصورة التى تعرضها الأفلام والأغانى المصرية، ولكننى فوجئت بأن أغلب النساء محجبات ومحتشمات، فالشارع والناس مختلفين تماماُ عما اعتقدت. قلت له، لا سامحهم الله، لقد أهدروا قيمة وعظمة ووقار مصر، وحصروها وحصروا صورة شعبها العظيم فى الراقصات والمغنيات والعشوائيات، وكأن مصر ليست أكثر من وكرٍ للرذيلة". هذه هى مصر يا أخى. مصر هى رمز الوسطية والاعتدال. مصر هى بلد الأزهر والعلماء والمفكرين فى مختلف الميادين!
ولهذا، فإن من بين حسنات الثورة (التى لا يمكن حصرها)، أنها أخرجت أجمل وأنبل ما فى هذا الشعب العظيم، حيث أدركت شعوب العالم أجمع - وعلى رأسها الشعوب العربية – أن مصر عظيمة بشعبها المحترم. وتكفينا ردة الفعل الشعبية العربية، التى عبروا عنها فى تعليقاتهم وكتاباتهم "أبناء الكنانة...خير أجناد الأرض...عودة المارد المصرى.. الفراعنة...الخ". فقد أدركوا أن البيوت المصرية لا تعج بالراقصات أو الغانيات كما صورت الأفلام والمسرحيات، ولكنها بيوت طاهرة، أخرجت هذه الملايين الشريفة، التى شرفت العرب أمام العالم أجمع.
إذاً، وبوضوح تام، ودون مواربة؛ على كل من يعمل فى الحقل الفنى أن يدرك أن مصر تولد من جديد، أو على الأقل، لنقل أن مصر تحاول استجماع ماضيها العريق وتاريخها الناصع الطاهر.
لذا، من غير المتصور أن يكون هناك مكان، فى مصر الجديدة، لدعاة الانحلال والفجور، وأولئك الذين كانوا يرددون بأن "القبلة فى الفيلم ينبغى أن تكون معبرة وحقيقية وساخنة" أو أن "المشهد لابد وأن يكون واقعياً حتى يقنع المشاهد..إلى آخر تلك السخافات". الأخوة فى مجال الإنتاج، والذين كانوا يبحثون عن الربح بأى طريق، حتى ولو على حساب بلد بحجم ووزن مصر، عليهم أن يعيدوا حساباتهم، وأن يرتبوا بيوتهم لمرحلة جديدة. لابد وأن يكونوا بنائين فى أعمالهم ووسطيين فى أفكارهم، وإلا كفانا الله شر أعمالهم الهدامة. فالحرية أو المدنية لا تعنى إطلاق اليد، ولكنها الحرية المقيدة بقيم وثقافة ودين المجتمع، وإلا سنعايش دوامة من التطرف والتطرف المضاد!!
لا أحد ضد الفن الراقى، الذى يجسد هموم ومشكلات وقيم وثقافة المجتمع. نحن لسنا دعاة انغلاق أو عزلة. مَن مِن نسى أغنيات أم كلثوم الراقية، التى جسدت رُقى الكلمة واللحن والصوت وحتى الجمهور، فقد كانت منظومة متكاملة. مَن منا نسى فيلم عمر المختار، ِلقد كان عملاً رائعاً بكل المقاييس. ولكن كم يمثل هذا العمل العظيم بين ملايين الأعمال الفنية التى جرت البشرية إلى انهيارات قيمية وأخلاقية، بل واقتصادية. علينا أن نفكر فى إبداع أعمال فنية بنكهتنا العربية والإسلامية والشرقية. علينا أن نراعى أن هذه الأعمال تشكل عقول وثقافة وقِيَم الملايين. فليس من العقل أن يتم العرض طوال الفيلم للبطل وهو يسرق ويقتل ويزنى ويعربد، أو لفتاة تعرض جسدها لمن يشترى، ونأتى فى نهاية الفيلم - وفى دقائق معدودة – ونضعه أو نضعها أمام سيارة أو على المقصلة أو فريسة لسرطان. فالفيلم والرواية بأكملها عبارة عن رذيلة مغلفة، وربما يغادر المشاهد فور الدخول فى مرحلة العقوبة، بعد أن يكون قد تشبع بثقافة الانحلال.
لقد تعلمنا يا إخوانى أن لكل فعل رد فعل مساوٍ له فى المقدار ومضاد له فى الاتجاه. فأى تطرف فى الرواية أو العمل الفنى لابد وأن يستثير حفيظة الإنسان الوسطى، ومن ثم فهو تطرف حسب التعريف الذى بدأنا به المقال. ولكن هذا التطرف سرعان ما سيقابل بتطرف مضاد. وهكذا ينقاد المجتمع انقياداً إلى التطرف والتطرف المضاد. هذا الفعل ورد الفعل سيفضى فى النهاية - كما نرى فى شوارعنا اليوم – إلى تآكل وتلاشى الطبقة الوسطى، أى الطبقة المعتدلة فى فكرها السياسى والدينى...الخ.
نحن فى أمس الحاجة إلى إعادة الحياة للطبقة الوسطى لكى تسود، لأنها صمام أمان ورمانة ميزان هذا المجتمع، ودفته نحو التقدم. فهل ينصاع أهل الفن والأدب وأصحاب الروايات الغريبة على قيم مجتمعنا، لطموحات مصر الجديدة. نحن بحاجة إلى بلد وسطى، فى الدين والفكر والأدب والفن. فكما وجهنا رسالة إلى أصحاب التيارات الدينية، رسالتى إليكم يا أهل الفن والأدب – وهى رسالة مواطن مصرى بسيط- هل تعيدون حساباتكم، وتبدءون مرحلة جديدة تعزز من جهود بناء مصر الجديدة؟ هذا ما ستكشف عنه الأيام.
• وكيل كلية الحقوق – جامعة المنصورة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة