ما أسهل فى هذه الأيام أن تغازل الرأى العام، وتلعب على أوتاره مؤيداً له فى كل اتجاه، ضامناً التحية، وأما إذا اختلفت عنه، فكان الله فى عونك، لأنك ستخرج عن السرب المغرد، فتصبح أهازيجك مثل نعيق البوم عند البعض. ولكنى آليت على نفسى منذ أن تعلمت الكتابة على ورق ينشر على العامة، أن أعبر عما أراه صدقاً وحقاً.. وأردد دائماً قول سيدنا على رضى الله عنه حين قال: إن صدقه لم يجعل له من صديق.. فإن كان هذا فى زمن الرسالة والصحابة والنقاء وإيمان اليقين، فما بال ثمن الصدق فى زمننا!
أما والزمان زماننا، والمكان مبنى التليفزيون الشهير بمبنى ماسبيرو الذى يعج بطوفان من المظاهرات والاعتراضات والاختلافات التى جعلت منه مكاناً ثائراً لا يهدأ ولن تهدأ فيه الثورة، حتى لو خفتت حدتها قليلاً فى بقية شوارع المحروسة. لأنى أظن أن مبنى ماسبيرو هو تلخيص للحالة المصرية، سواء قبل ثورة 25 يناير أو حتى بعدها. وعلى هؤلاء الذين يبحثون له عن حل، أن يدرسوا جيداً حالة مصر، ليستطيعوا إيجاد حل مناسب للحالة المصرية التليفزيونية.
ولنبدأ من أول السطر، فهذا المبنى العتيق الذى يقبع على ضفة نهر النيل وتم إنشاؤه فى بداية الستينيات من القرن الماضى، لتدخل به مصر إلى عصر التليفزيون، وتكون الدولة العربية الأولى الرائدة فى هذا المضمار، فتؤسس لريادة مصرية جديرة بزمن الثورات فى ذلك الوقت، ويبدأ التليفزيون العربى المصرى بوجوه وأسماء موهوبة، ومناسبة لعصرها فى جميع المجالات، كالتقديم والإخراج والتأليف والتصوير وجميع جوانب هذا الفن التليفزيونى الوليد، فأسماء مثل حمدى قنديل، وليلى رستم، ونور الدمرداش، ومحفوظ عبدالرحمن، ومحمود مرسى، وعشرات غيرهم يكونون الكتيبة الأولى فى صدارة الإعلام المصرى آنذاك.
ثم تأتى حرب 67 لتُهزم مصر، ويُهزم إعلامها بالتبعية، بل يضرب فى مقتل.. فى صدقه، ولكن مصر تقرر أن تنفض عن جسدها الهزيمة بحرب استنزاف، وكذا يفعل الإعلام المصرى، فكل منهم كان يحارب فى مضماره حتى يصل إلى النصر، فحين تدق الساعة الثالثة يوم 6 أكتوبر وما بعدها من أيام، تعلن انتصار جيوش مصر على إسرائيل، لم يكن ذلك إلا إعلانا موازيا أيضا لانتصار جيشها الإعلامى الذى نكس أعلامه طويلاً.
وبعد حرب 1973 يحدث التحول الدراماتيكى فى حياة العرب ومصر، ويدب الخلاف على استحياء وتصعد الدول البترودولارية التى تريد أن تلحق بريادة مصر، ونتحول إلى سياسة السوق المفتوحة، والروح الاستهلاكية، وبدأ الفساد يدب فى أوصال الوطن فى البداية على استحياء، ثم دون حياء أو خجل، وهو نفس ما حدث فى جسد هذا المبنى حيث صارت المحسوبية والواسطة وأشياء أخرى هى وسيلة الدخول إلى هذا المبنى، وكما بدأ جسد مصر يترهل، بدأ جسد التليفزيون يترهل، فأراد من يملكون فيه الحل والربط، أن يوسعوا ممالكهم، فراحوا يتوسعون فى التعيين والمحطات والقطاعات والأقمار، ومع كل توسع يتوسعون فى التعيين دون مواصفات غير الواسطة والمحسوبية لأبناء العاملين، ولو حصلنا على الخريطة البشرية للعاملين داخل التليفزيون، سنجد عائلات لديها مئات من العاملين بداخله.
وهكذا حتى وصل عدد العاملين اليوم فى هذا المبنى إلى 45 ألف نسمة! أغلبهم إن لم يكن 94 % مُعينون بواسطة، وكثير منهم غير مستحق، فعشرات من فنيى كاميرات يتحولون إلى مخرجين، ومئات من فنيى صوت يتحولون إلى مديرى أو رؤساء قطاع، وهنا أنا لا أقصد التقليل من فنيى الصوت أو الكاميرا لأن لكل وظيفة مهامها، ولكن داخل مبنى ماسبيرو أو مبنى الخطيئة، كما يُطلق عليه المتظاهرون، كل شىء ممكن.
إذن نحن أمام جسد مترهل عجوز مثقل، كل من مر عليه يشارك بحجر عثرة فى طريق تقدمه على الأقل فى آخر ثلاثين عاماً أو يزيد.
يرفع المتظاهرون الآن شعارات شتى، ولكن أغلبها تطلب تطهير المبنى وأنا أيضاً كذلك، فأنا مصرية دافعة للضرائب، أساهم فى هذا المبنى وفى كل مبنى عام، ولكن هل يعرف المتظاهرون ويدركون أن التطهير الحقيقى يتطلب حلولاً لابد أن تنالهم هم شخصياً؟!.. فتنظيم الإعلام القومى لن يأتى إلا بحلول مؤلمة.. ولكنها خلاقة.
أولاً: تفريغ المبنى على الأقل من 60 % من العاملين فيه بمعاش مبكر أو باتفاق ما. ثانياً: الاكتفاء بثلاث قنوات رئيسية أو أكثر قليلاً كقناة الأخبار وقناة عامة وقناة دراما وقناة محافظات محلية.
ثالثاً: على مجلس الوزراء الذى قرر أن يكون مجلس حكماء من إعلاميين سابقين لإصلاح ذات البين مع المتظاهرين، أن يقرأ المشهد جيداً، فهل السيد حسن حامد الذى كان رئيساً لاتحاد الإذاعة والتليفزيون فى وقت مضى، وحين ترك منصبه والاتحاد مدين بـ5 مليارات جنيه دون حس أو خبر، هو شخص مناسب للحديث عن إصلاح الإعلام؟ هل السيدة درية شرف الدين وهى مذيعة قديرة، ولكنها إدارية ساهمت فى موت الفضائية المصرية، تصلح أن تكون من أهل إصلاح الإعلام؟ عشرات من الأسماء تتصدر الآن مشهد الحديث عن إصلاح الإعلام، وللأسف ومع كامل الاحترام، لا يرقى أى منهم لأكثر من منظر الآن، للحديث عن إصلاح جسد ساهموا فى ترهله ومرضه.
رابعاً: الإعلام من الصناعات التى يصعب الحديث فيها عن العدل، لأن الله سبحانه وتعالى لم يمنح البشر مواهبهم بالعدل، ولكنه منحهم الحياة بشكل عام عادلة، فالموهوب لابد أن يتم تصعيده، ولا حديث هنا عن أقدمية تعطى أحقية.
الإعلام المصرى التليفزيونى محتاج إلى ديكتاتور عادل، ولا أظن أن اختيار مجلس الوزراء للدكتور سامى الشريف يمثل هذا الاختيار ببساطة فحين يعلن رئيس اتحاد الإذاعة والتليفزيون الحالى فى أحد حواراته أنه بصدد التفكير فى بيع قطع أراضى فضاء تتبع الاتحاد لسداد بعض من الالتزامات، لا نملك إلا أن نقول له يا نهار أسود يا سيدى.. قطع الأراضى الفضاء الموجودة فى طول مصر وعرضها وتتبع اتحاد الإذاعة والتليفزيون هى محطات للإرسال أو تقوية الإرسال التليفزيونى، فإن كان رئيس الاتحاد لا يعرف هذه المعلومة، ويتصور أن تليفزيون مصر ممكن أن ينقذه بيع أراضى محطات الإرسال، فتلك كارثة يصعب معها أن نناقش أكبر رأس فى منظومة الإصلاح عن أى إصلاح.
وخلاصة القول إن إعلام مصر القومى بحاجة لانتفاضة من الرأس إلى القدم، ولكن ليس على طريقة المتظاهرين ولا على طريقة مجلس الحكماء والمفاوضات التى تبحث عن حلول فئوية، ولكنه بحاجة إلى قرارات جريئة صاحبة خيال فيها كثير من الألم للمعترضين وغيرهم. ماسبيرو لم تعد تجدى فيه عمليات التجميل والترقيع فهو بحاجة لثورة كاملة من قلب وعقل ووجه جديد.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة