من نعم الحياة علينا أن يطول صمت الزوجة، فهذه نعمة ما بعدها نعمة، الهدوء يسود البيت، السكينة تلف المكان، مرت عدة أيام وزوجتى على حالها، لا يشغل بالها سوى البحث فى قنوات التليفزيون سعياً وراء الأخبار الساخنة.
بدأت أشعر بالقلق عليها من طول هذا الصمت، خشيت أن يكون قد أصابها مكروه، بعدما لاحظت أن صنبور الثرثرة قد أغلق.
اقتربت منها بحذر:
- هل أنت بخير؟
هزت رأسها دون أن تنطق!
- يا عزيزتى يجب أن تتكلمى، طال صمتك، وهذا عند علماء النفس بداية مرض نفسى.
- مرض نفسى إيه بس، كل ما فى الأمر أننى قلقه، أشعر برهبة وخوف شديدين.
ـ لما؟
- من المجهول الذى يحيط بنا، من الثقب الأسود الذى سيبتلع الكون، من الخطر الذى يحدق بنا، أصبحنا نخشى من كل شىء إن الإنسان الذى يعيش طويلاً يغمض عينية عندما يرى الضوء...
أقاطعها قائلاً:
- لكن حتماً سيعتاد على الضوء عندما يعيشه.
يقطع حديثنا رنين التليفون، عبر الهاتف يأتى صوت صديقى مدحت
- أين أنت يا صديقى؟ لم نعد نسمع صوتك.
- ياصديقى البلد تمر بمنعطف خطير، أصبحنا فرق شتى لا رابط بيننا، السيول ستجترف السدود، البلاد ستغرق، ونحن مازلنا نبحث عن دور، كل واحد يبحث عن موضع قدم، كل منا يدفع الآخر ليحل محله.
- عندك حق البلد ليست فى حاجه إلى الكلام، ولا المؤتمراتـ، الطوفان سيجتاح كل شىء، أخشى ما أخشاه أن تكون هناك أيد خفية تدفع بالبلد إلى حافة الهاوية.
يرتفع صوت مدحت عبر الهاتف:
- والله اللى بيحصل ده حرام، شباب قام بالثورة تركها، ليبحث عن حزب، عواجيز الفرح عايزين الرئاسة، الناس بتتفرج على البلد كأنها راقصة بشارع الهرم، مليارات نهبت وإحنا بنروح ساحة التحرير نهتف ونتفرج.
- اقتصاد بلد بينهار وإحنا لاهمّ لنا سوى المظاهرات الفئوية.
- ياريت نعمل على عبور تلك الأزمة الطاحنة، الجميع يتكلم فى السياسة فاهم وغير فاهم.
- أخشى من ثورة الجياع لا ثورة الإنقاذ.
- أخشى من وقت لا ينفع فيه مال ولا بنون، أخشى ألا تشرق الشمس مرة أخرى.
أنهيت المكالمة مع صديقى مدحت، وأنا فى حيرة من أمرى، تحاشيت النظر إلى عينى زوجتى، فأنا أعرف آراءها السياسية، تقول لـ "لأعور أنت أعور فى عينك"، من نظرة عينيها أستطيع أن أقرأ كل ما يدور بخلدها، تنهض زوجتى تغلق التليفزيون.
أنظر إليها فى دهشة:
ـ لماذا تغلقيه؟
- سئمت من كل ما أسمعه وأشاهده، ثلاثون سنة ونحن نسمع ونشاهد، هذا مباح وهذا غير مباح.
فجأة تقفز زوجتى إلى موضوع آخر.
- هل شاهدت مباراة مصر وجنوب أفريقيا؟
هززت رأسى باستغراب:
- ماذا بها؟
- أن يتبخر الحلم، ويتسرب من بين أيدينا، لنستيقظ على كابوس.
أقترب منها أحاول أن أخفف عنها ما تشعر به.
- يا عزيزتى عجلة الزمن لن تعود للوراء، لن يعود ذلك الكابوس ليجثم على صدورنا مرة أخرى.
- تزم شفتيها كعادتها عندما تستغرق فى فكرة تشغل بالها.
- المهم ألا نعود نحن، ألا نعود للخوف، أن نتحدث بلا خوف من الرقيب، من سيف سلط على الرقاب، من خنجر تحمله يد آثمة تطعن فى الظلام الدامس.
بنبرة حزن:
- يا عزيزتى تحدثى كما شئت!
- بلا خوف من السنوات العجاف، ومن بطش السلطة، تعودنا أن ننقد الماضى فهذا هو المسموح أما الحاضر فلا يجب، أريد أن أنقد ما نحن فيه، لا ما عشناه، الثورة، الجيش.
أنظر إليها بدهشة وابتسامة باهتة:
- لكِ ما شئت.
- نعم الثورة، ينتابنى شعور غريب أن الثورة ولدت يوم الخامس والعشرين نبت صغير يحتاج إلى الماء والهواء، وإلى يد ترعاه، أخشى عليها من أصحابها، أخشى عليها أن يدير الجميع ظهره إلى هذا النبت الذى نما وترعرع وأثمر وامتدت الأيدى إلى الثمار تحاول قطفها، أخشى عليها أن تترنح تحت وطأة ضربات من اليمين ومن اليسار.
أهز رأسى موافقاً.
- عندك حق يجب علينا أن نرعى هذا النبت، أن نسرع الخطى فى القضاء على رموز الفساد، لا نريد محاكمة الذمم فمثل هؤلاء أعدوا العدة لكل شىء، أنحاكمهم بقانون هم واضعوه؟
- يعنى نتركهم يهربون بما نهبوا، لن نحاكمهم بالقانون لنترك الأموال المنهوبة جانباً، لنحاكمهم عن الكثير الفساد السياسى، الانفلات الأمنى، العبث بالقوانين والجبروت، وإذلال الشعب وحرمانه من حرية الكلمة، من أن يعرف كيف يحيا، نحاكمهم عن قانون الخوف الذى زرعوه داخل كل طفل، الخوف من أن تقول أنا مسلم فتصبح أخوانى أو سلفى، أو مسيحى فتتهم بأنك تريد أن تثير الفتنة، نحاكمهم عن الحلم الذى قتلوه داخل قلب كل فتى وفتاه، عن اليأس من المستقبل وظلام أغشى العيون، وحطام جذوع نخل خاوية، ولسة بتقول نحاكمهم بأى قانون؟
- قانون العدل السماوى.
حسن فرج يكتب: أنا وزوجتى.. والخامس من العشرين
الأربعاء، 06 أبريل 2011 10:26 م
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة