حرام وظلم، أن يتلوث ثوب الثورة الأبيض الطاهر بالبقع السوداء، ولم نكد نفرح بارتدائه والزهو به سوى ساعات قليلة، وكم كانت دهشتى كبيرة لدى متابعتى همتنا ونشاطنا فى تلطيخ ثوبنا الثورى الناصع الزاهى بأفعال وسلوكيات تتنافى وتتعارض تماما مع أخلاقيات الثورة المفترض أنها فجرت أجمل وأنقى ما فى نفوس المصريين، الذين تباهوا بفخر واعتزاز بوقوفهم جبهة واحدة لا نميز فيها بين المسلم والمسيحى، أو بين الغنى والفقير، أو بين ساكنى القصور والعشوائيات.
ومباشرة وبدون التفاف، فإننى أتحدث عن سلوكنا المنفلت الذى يدفعنا للبكاء بحرقة، لأنه يدلل على أننا لا نعبأ ببناء مستقبل أفضل، ونفتقد الإحساس بالمسئولية التاريخية الملقاة على عاتقنا جميعا فى ظرفنا الراهن، وعلينا مواجهة ومصارحة أنفسنا بتلك الحقيقة وعدم التوارى خلف الزعم بأنها تصرفات فردية، وكيل الاتهامات لقوى الثورة المضادة، لتحميلها مسئولية ما يحدث، ورجاء عدم تفسير الجزئية الأخيرة على أنها نفى لوجود مؤامرات تحاك فى الظلام ضد ثورة الخامس والعشرين من يناير من قبل أقطاب النظام السابق.
ولتقريب الصورة المحزنة تعالوا بنا نتوقف عند حوادث ومواقف شهدناها فى الأيام الماضية، ونبدأها مما وقع فى ستاد القاهرة، خلال مباراة الزمالك مع الأفريقى التونسى السبت الفائت، فالجماهير بدلا من أن تتخلى عن غوغائية التشجيع المعهودة فى عهد حسنى مبارك، إذا بها تشارك فى مشهد غير مشرف اتضح فيه ميل فطرى للفوضى وغياب الوعى العام.
والصورة المنقولة عبر شاشة التلفزيون أبلغ من كتابة آلاف الكلمات المعبرة عن الحزن والغضب، فمئات المشاهدين اقتحموا الملعب، واعتدوا على الحكم الجزائرى وعلى لاعبى الفريق الضيف، وأصابوا بعضهم، وتسلحوا بالشوم والشماريخ التى أطلقت باتجاه كاميرات التصوير، أهذا سلوك مقبول من شعب نفذ ثورة كانت حديث العالم الذى انبهر بها، وطالبت دولا كثيرة بتدريسها وتحليلها من كل جوانبها، وما الذى جنيناه منه، وهل تساوى مباراة كرة قدم ظهورنا بهذا المظهر غير الحضارى؟
لو وقع ذلك قبل شهرين كنا سنبحث عن مبررات تخفف من هول الحدث، وسيخرج المحللون الرياضيون بنظريات وتفسيرات عن الألتراس والقلة المندسة غير المسئولة الراغبة فى إفساد الحدث الرياضى المهم، لكن بماذا سنبرره، فى أعقاب الثورة؟ لا أجد مخرجا ولا تبريرا سوى أن هناك خللا فى سلوكنا وسيكون من سوء التقدير عدم الإقرار بذلك.
خذ عندك أيضا إثارة الجماعات السلفية قضية الأضرحة، وتهديدها بهدم ضريحى السيدة نفسية والحسين، ومقابلة الجماعات الصوفية التهديد بتحذيرات من خطورة وتهور السلفيين، فيما يجوز وصفه مجازا بمقدمات حرب أهلية بين الجماعات الدينية. وليخبرنى دعاة السلفية عن الغرض من إثارة الموضوع فى هذا التوقيت بالذات الذى نحتاج فيه للتركيز على هدف أسمى وأكبر، متمثلا فى بناء نظام جديد لبلدنا، ولما لا يوجه هؤلاء الدعاة الأفاضل جهودهم لتوعية المواطنين لحماية الثورة والمشاركة فى البناء، وبعدما تستقر أمورنا تستطيع فتح ما تشاء وتشتهى من موضوعات وقضايا تعلم يقينا أنها تفرق ولا تجمع، وتنفخ فى رماد نيران ليس هذا بالوقت الملائم لإشعالها، والانشغال بإطفائها. وابحث عن السلوك القويم الرشيد الذى يشجعنا الدين عليه ويدعونا للتحلى به، فلا أعثر عليه مع أنه من أولى مهام الدعاة للدين الحنيف.
ومنعا للإطالة، اخترت موقفا ثالثا للتدليل على سلوكنا غير المنضبط ويهدد مستقبل ثورة ضحى لأجلها كثيرون من خيرة شباب وأبناء الوطن، فقد حول المواطنون ميدان رمسيس إلى نموذج صارخ للعشوائية، فالباعة افترشوا كل شبر فيه، وانتشرت عربات بيع الكبدة والحمص والكشرى، وكل ما تهفو إليه النفس من مأكل ومشرب، بالإضافة إلى الركن العشوائى للسيارات فى شوارع وسط البلد وغيرها من الأحياء، والأمثلة لا تعد ولا تحصى. أهذا ما نريده حقا وصدقا لمصر؟ كلمة حق اختم بها: بلادنا لا تستحق منا استمرارنا فى اتباع سلوكيات سوف أصفها تأدبا بأنها غير رشيدة، وتسهم فى الهدم وليس البناء.