منذ نحو أسبوعين وأنا أعصر ذهنى، محاولة الكتابة، غير أننى على كثرة القضايا التى تعج بها البلاد حتى التخمة، أشعر بأن هناك فراغا كبيرا يعتمل فى داخلى، لا لسبب إلا لأن الإحساس بعدم الجدوى هو الغالب على العقل والمنطق والمشاعر.
فإذا تحمست لفكرة وهممت بالكتابة عنها، أجد عشرات المقالات التى تتناولها من زواياها المختلفة منها القَيم ومنها المُسف، غير أن الأخطر من هذا، ذلك الشعور الذى ينتاب النفس فيجعلها تؤثر الانزواء على الانخراط فى قضايا أصبحت مبهمة ومحبطة فى آن.
لكن الأمر الذى شعرت بأنه يحتاج لتسليط الضوء فى أكثر من مقال، هو ما يحدث من خلط واستغلال لمفهوم الديمقراطية، التى أصبحت تمارس بين الناس بطريقة مستفزة، فالمجتمع الذى غيبت الديكتاتورية وعيه سنوات طوالا، أصبح الآن ينتفض على أى شىء وكل شىء واستهوته التجربة فانزلق فى أتونها.
هذه أزمة قنا التى عصفت بالجنوب (الصعيد الجوانى) الذى أهملته الدولة لعقود، فشعر ساكنوه مع الوقت أنهم دولة داخل الدولة، لهم أعرافهم وقوانينهم القبلية الخاصة، التى لاينفع معها ممارسة أى قانون سيادى آخر، وكانت مهزلة قطع خطوط السكك الحديدية المؤدية إلى شريان الحياة فى الصعيد، فأصبحت فى حالة موت إكلينيكى بفعل أهل الصعيد نفسه، والكل يعرف السبب، إذ كيف تجرؤ الحكومة على تعيين محافظ مسيحى للمرة الثانية على التوالى فى محافظة لها هيبتها وتاريخها مثل قنا، وكأن القدر أراد لهذه المحافظة ذات الأغلبية المسلمة أن يحكمها قبطى، واستمر هذا التحجر فى الموقف حتى رضخت الحكومة فى النهاية للمطالب الفئوية، فتم تجميد المحافظ لثلاثة أشهر، نزولا على رغبة المعتصمين!
ثم يأتى دور سائقى الميكروباص، الذين لايختلف على بلطجتهم أحد، وممارساتهم الهمجية وتعاملهم اللامسئول فى الشوارع والميادين، بدءا بقيادة متهورة، إلى مخالفات مرورية جسيمة، إلى شتائم يندى لها الجبين، إلى استغلال الميكروباص فى التهريب وتجارة المخدرات واختطاف الفتيات واغتصابهن.
شعرت هذه الفئة بالتهميش وسط الحراك البلطجى، فرأت أن يكون لها دور فاعل، فقامت بالإضراب وقطع طريق المحور، وعطلت السير لساعات بحجة إسقاط المخالفات المرورية المجحفة والظالمة عنهم، ولم لا.. ؟! فقد أصبح كل شىء مباحا، طالما القانون غائب وهيبة الدولة فى خبر كان.
سائقو الميكروباص هم أكثر شرائح المجتمع التى تحتاج إلى إعادة تأهيل، وهم أكثر الفئات عشوائية، وعدم التزام بالقوانين المرورية التى تعرض حياة المواطنين للخطر، والسؤال.. كيف يمكن للحكومة التعامل مع هذه الفئة؟ وإعادة النظر فى تسيير هذه المركبات التى لاتتوافر فيها شروط الأمان للمواطن الغلبان، الذى لا يملك رفاهية امتلاك سيارة ترحمه من ذل الانتظار لساعات حتى يمٌن عليه أحدهم بالتوقف، فيتوقف فى نهر الطريق ويتلكأ فى السير حسب المزاج، ويعطل وراءه موكبا من السيارات، فما يهمه هو ممارسة مايراه حقا له، دون الالتفات إلى حقوق الآخرين، بل ازدادت غطرستهم فى الآونة الأخيرة، واستيقظت فيهم شهوة الانتقام من ضباط الشرطة، وبدأوا يمارسون سلوكيات استفزازية ضد كل ما هو (شرطى) مصحوبا بألفاظ نابية، والشرطة الممهورة بالعار صامتة لا تستطيع اتخاذ أى موقف!!
ولا ننسى مظاهرات موظفى محافظتى حلوان والسادس من أكتوبر، بعد أن صدر قرار من رئاسة الوزراء بضمهما الى محافظتى القاهرة والجيزة، فقامت الدنيا ولم تقعد، وقطع الموظفون الطريق فى شارع القصر العينى بالأتوبيسات التى أقلتهم إلى مقر مجلس الوزراء، فى تحد سافر للحكومة ودون سماع لصوتها الذى بدأ يخبو تدريجيا مع كل هبة احتجاجية، بل لم يكتفوا بذلك وقاموا بتحطيم سيارات لمواطنين احتجوا على تعطيل السير.
ما يحدثه التيار السلفى من خروقات تتجلى فى محاولاتهم فرض الوصاية على دور العبادة، وسيطرتهم غير القانونية على المساجد الكبرى بوضع اليد، بدعوى أنهم الأحق فى إدارتها.
المظاهرات الفئوية التى تنطلق من حين لآخرأمام ماسبيرو، وتزايدت حدتها، وأصبحت تشكل عبئا قاسيا على المواطنين، وتتسبب فى اختناقات مرورية قاتلة فى أكثر منطقة تكتظ بالبشر لساعات قد تمتد حتى ساعات الفجرالأولى أحيانا، فى انتهاك صارخ لقانون حظر التجول!
كيف يمكن إذن أن نؤمن بثورة جاءت للتغيير، فانحرف مسارها وانشغلت بتغيير كل ما هو خاص وفئوى، حتى لو كان بغير حق، فمن وجهة نظر أصحاب المظالم هو حق مشروع، وعلى الدولة أن تنصاع، وبالتدريج بدأنا نشعر بأن هيبة الدولة تتلاشى ويتقزم دورها.
من قال إن ممارسة الديمقراطية تتم بهذا الشكل؟ وربما وصلنا إلى حقيقة مخجلة مفادها: أن الشعب لم يفهم بعد أسس التحول الديمقراطى الراقى الذى تتعامل به الشعوب المتحضرة عبر الاحتجاجات المشروعة فى قنواتها الرسمية، دون تعطيل لمصالح الناس وقلب حياتهم إلى جحيم يومى، وبالحوار الذى يخضع للحجة والإقناع، لا بالمهاترات والإرهاب.
كان هناك أمل فى أن يتحول السلوك المجتمعى فى إطاره الشمولى إلى سلوك راق متحضر، غير أن الواقع يثبت العكس، فالجميع أعتقد أن الثورة ستكون الملاذ والملجأ الآمن، وبدلا من ذلك بدأنا نسمع عبارة واحدة تتردد على كل لسان.. "نحن فى عهد الثورة" "اللى كان بيحصل زمان انتهى"، ولا أدرى لماذا هذا الخلط، فهل البلطجة والتشبيح فى الشوارع، وقطع الطرق، والسيطرة على المساجد بالقوة تحت مسميات وذرائع عديدة، هى مسَوغات أخذ الحق والتعبير عن الذات؟ أم أن هناك أخلاقيات لايختلف عليها اثنان هى الفيصل فى شأن "كان زمان".. أو "لم يكن".
هل تعنى الديمقراطية تعطيل المصالح العامة والاشتباكات الفئوية؟ هل الديمقراطية أن نمارس كل ما نراه حقا وإن كان باطلا؟ وهل يعنى قطف ثمار الثورة هوحالة الاستعداء والتجرؤ عليها، حتى أصبح التشكيك فى صدقيتها ونبل أهدافها، هو الهاجس الذى بدأ يتسلل إلى نفس كل من راهن عليها؟؟
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة