حين كانت «جمهورية قنا» تعزل نفسها عن العالم وتقطع خطوط مواصلاتها عن كل مصر كان التليفزيون المصرى يكتفى مثل غيره بإذاعة أخبار التمرد القناوى ورفض المحافظ الجديد، ولمدة أيام طويلة كانت الأوضاع تتطور والتليفزيون على حاله، رغم أنه مصرى وطنى رسمى مملوك للدولة كما يقولون، وللشعب كما يحلو لبعضنا أن يقول، أقصى ما فعله هذا التليفزيون فى نشرات أخباره هو الاتصال التليفونى بمندوبى الصحف فى قنا، ومساء الأربعاء فقط اتضح أن له مندوباً هناك يتبع القناة السابعة! فسأله ولم يضف جديداً، كدت أجن، فإذا كان ميدان التحرير قد غيب فى أيام الثورة بسبب التعليمات من فوق، فما الذى يغيب محافظة «قنا» عن تليفزيون تحرر من الوزارة والوزير ووصاية الحزب الوطنى ورجاله؟ وهل نسى القائمون عليه أن لديهم شبكة قنوات محلية تستعد منذ عام 2008 «أى ثلاث سنوات» لإعادة إطلاقها باسم «باقة المحروسة»، بالطبع اختلف الوضع بعد رحيل الوزير أنسى الفقى عن الوزارة، والإطاحة برئيس الشبكة عادل معاطى، لكن الشبكة موجودة بناسها ومقرها وكاميراتها فماذا حدث ويحدث لنا نحن كمشاهدين فى كل العهود، وإذا لم تتحرك هذه القنوات المحلية، فى عقر دارها والأحداث تتقافز أمامها فمتى تتحرك؟ ثم لماذا لم يرسل التليفزيون وقطاع أخباره مراسلاً على الطائرة التى ذهب إليها وفد التهدئة برئاسة الداعية محمد حسان لينقل إلينا كل ما حدث، بدلاً من الصياح عن بعد لسؤال حسان وصفوت حجازى عما يحدث، ورأى الناس.. وهل يمكن بعد هذا الاختيار العشوائى أن نطمئن على سلامة وصحة الإعلام المصرى المرئى الذى كنا نتباهى به طويلاً على مدى ثلاثين عاماً، بالتحديد منذ بدأ البث التليفزيونى فى يوم 21 يوليو عام 1960 بالعرض العسكرى السنوى وإلقاء الرئيس عبدالناصر خطابه فى عيد الثورة الثامن، وبعد يومين - أى 23 يوليو - تم الافتتاح الرسمى من استديو 4 الذى كان أول استديو يتم تجهيزه وقتها.. كان افتتاحاً تاريخياً أعقبته جهود فائقة ليصبح التليفزيون جهازاً ذا بعدين، بعد يبث تعليمات حكومة الثورة وأنشطتها وخطب الرئيس إلى الشعب.. وبعد آخر يهتم بالتنمية فى كل أبعادها من التنمية الثقافية «إنشاء مسرح التليفزيون وبرامج المسرح والسينما والأدب» إلى برامج محو الأمية والتعليم والإرشاد الزراعى وغيرها، وبالطبع بدأت صناعة الدراما التليفزيونية العربية كلها من هذا الجهاز.. ولكن المشكلة بدأت حين أصبح واضحاً أن التليفزيون رغم هذا أصبح جهاز إعلام النظام وليس الشعب، فى مرحلة مبكرة كانت القيادات المتمتعة بعضوية الاتحاد الاشتراكى لها نفوذ يفوق غيرها من خارج التنظيم السياسى للنظام، وبعد رحيل عبدالناصر ومجىء السادات أقدم على تطهير الجهاز من الإعلاميين مثلما حدث فى الإذاعة والصحافة بحجة أنهم «مراكز قوى» ولكن التليفزيون نفسه استمر على نفس النهج، أى التبعية للنظام الجديد ورئيسه الذى كان أشد حفاوة بالإعلام، سواء عن نفسه أو سياساته، ومن جديد يدخل التليفزيون مرحلة ثالثة مع رئيس جديد بعد اغتيال السادات وتولى مبارك السلطة عام 1981، ويأتى معه وزير إعلام جديد هو صفوت الشريف ليتحول الإعلام المرئى من خلاله إلى أداة من أدوات النظام وليس مجرد تابع، وتعلو نغمة «السيادة» بعد أن كانت «الريادة» هى نغمة الافتتاح، ورغم التطورات السريعة فى تكنولوجيا البث التليفزيونى والتى أتاحت للعديد من أجهزة الإعلام المرئية العربية بدايات قوية تفوقت فيها على تليفزيون الريادة، إلا أن «الخطة البديلة» للوزير كانت الكم والإغراق فيه، عكس المطلوب، ليصبح متاحاً له وللسيد الرئيس دائماً وفى كل مناسبة الاستحواذ على الشو والتركيز الإعلامى من خلال الافتتاحات والأعياد، ثم جاء العصر الفضائى مع النصف الثانى من الثمانينيات ليسرع إليه الوزير مقرراً أن تطلق مصر قمرها النايل سات فتصبح الأولى، وللأمانة فإن مصر كانت قد أقصيت عن القمر العربى الجماعى «عرب سات» بعد أن كانت من المؤسسين بسبب كامب ديڤيد، ولكننى أشك فى أنها حتى لو لم .. باختصار فضح العصر الفضائى المستور فى إعلام السيادة، وعود المشاهد على البحث عن أخباره لدى قنوات أخرى غير مصرية ومع ذلك لم يتحفظ النظام، ولم يفرج عن «الآخرين» ويتيح لهم فرصة النفاذ إلى تليفزيون بلادهم، قوائم طويلة من المعارضين، والمشاغبين والمعاكسين، وأصحاب الآراء غير الموثوق فيها كانت تشهر فى وجه أصحاب البرامج من العاملين بالإذاعة والتليفزيون، وفقط قبل الانتخابات كانت تعطى دقائق لأصحاب الأحزاب «الشرعية» التى وافق عليها النظام منذ أيام السادات.
والآن وبعد أن انتهى هذا «النظام» وتم إلغاء الوزارة، ولم يعد لدى قيادات التليفزيون والإذاعة ذلك الحاجز المخيف الممثل فى تعليمات الوزير أو مكتب الوزير أو ما فوقهما، فلماذا يخاف الجهازان.. ولماذا لا يضع كل مسؤول نفسه فى موضع المواطن الذى يسمع عن فتنة فى قنا أو حدث فى الإسكندرية.. وهل يحتاج الأمر لعملية تأهيل فنى ونفسى لتخليص المسؤولين الآن من بعبع التعليمات من فوق.. أم أن مطالب العاملين ومظاهراتهم المستمرة أصبحت ضاغطة لدرجة تلهى عن التفكير السليم والحاسم.. نحن فى مفترق طرق كشعب، وكإعلام، فإما أن ندرك وضعنا ونخلص لعملنا، وأما أن ننسحب.. ولن يبكى علينا أحد فى الحالة الثانية.. لأننا سنكون قد سلمنا مقدراتنا لغيرنا يلهو بها كما يشاء.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة