لن يستطيع المؤرخون أن يتجاهلوا دور مبارك فى حرب أكتوبر، كما لن يتجاهلوا أنه استهلك شرعيتها فى ثلاثين عاما من الفساد والإهمال الذى طال أبطال هذه الحرب الحقيقيين مثل عبد العاطى صائد الدبابات.
فى الوقت الذى يجمع فيه النائب العام وجهاز الكسب غير المشروع مخالفات مبارك المالية والإدارية، تمهيدا لمحاكمته تدور فى صمت فعاليات محاكمة أخرى، بلا صخب أو ضجيج، هى محاكمة التاريخ الذى لا يغفر ولا يرحم، يتلون أحيانا، يوجه أحيانا أخرى، لكن فى العادة يحمل الكثير من المفارقات والحقائق والأدلة، ومن سوء حظ حكام العصر الحالى، أن الوثائق التاريخية تنوعت وتعددت بالشكل الذى يستحيل حصره أو التأثير عليه، فقديما كان الملوك والحكام يتحايلون على التاريخ بمحاولة شراء ذمة المؤرخين أو الكتبة أو طمس إنجازات غيرهم وإبراز إنجازاتهم، أما اليوم فمن الصعب أن يتحكم أى حاكم فى كل هذا الكم المهول من الفيديوهات والمدونات وصفحات الفيس بوك والمواقع الإليكترونية والصحف والمجالات ومراكز الأبحاث وشهادات المغتربين وغيرها من مصادر الحصول على المعلومات.
بجانب كل هذه المصادر التى سيعتبرها المؤرخون فيما بعد "تاريخية"، يوجد مصدر آخر كبير ومتسع سيعتمد عليه المؤرخون فيما سيكتبونه عن عصر مبارك، وهذا المصدر هو ما يوجد على أرض الواقع مثل الأبينة و مشاريع البنية التحتية أو المصانع أو المزارع، الموضوعية التاريخية تقتضى من المؤرخ أن يتناول كل هذه الأشياء التى كان يعدها مبارك "إنجازات" بعين الحيادية، بحيث مثلا إذا ما ذكر مشروعا مثل مشروع مترو الأنفاق فإنه من الواجب أن يذكر الدعاوى القضائية التى تنظرها المحاكم الآن للتحقيق فى فساد الجهاز، كما يجب أن يذكر تقارير الجهاز المركزى للمحاسبات التى ترصد إهدار المال العام وتردى البينة التحتية فى هذا المشروع العملاق، وإذا ما عرج المؤرخ على المشاريع الاستثمارية والصناعية فلابد أن يذكر كيفية حصول رجال الأعمال على امتيازات هذه المشاريع وما الذى استفادوه من الدولة والفائدة التى عادت إليها منهم، وفيما يخص تاريخ مبارك الشخصى فيستحيل أن يتجاهل مؤرخ ما دوره فى حرب أكتوبر وقيادته للقوات الجوية وقتها، ومن الطبيعى أيضا أن يذكر كم اللغط الذى دار حول هذه الحرب، ومدى استثمار مبارك لدوره فى الحرب ليحكم شعب مصر ثلاثين عاما يملأها الفساد فى كل جانب متحصنا بزيه العسكرى وتاريخه الحربى، كما يجب أن يذكر التاريخ مدى رعايته لأبطال حرب أكتوبر، وهى الرعاية التى سجلها الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودى فى قصيدة عبد العاطى صائد الدبابات الذى توفى فى عصر مبارك مصابا بفيرس سى تحت براثن الإهمال وقال فيها إن مبارك الذى يتشدق بحرب أكتوبر ترك أبطالها الحقيقيين ليموتوا بالإهمال واستولى هو ومن معه على خيرات البلد.
ملمح آخر لابد أن يذكره المؤرخون، كما يؤكد الباحثون، وهو هذا الكم الهائل من المدارس والمكتبات والمنشآت الخدمية التى كانت تحمل اسم مبارك أو زوجته، فلابد أن يحلل المؤرخون وعلماء الاجتماع هذه الظاهرة ووضعها فى مكانها الصحيح، فالثابت أن هذه المنشآت لم تمول من أموال مبارك الخاصة، وإنما كانت من أموال المصريين، فبأى صفة وتحت أى مسمى يتم إطلاق أسمائهم عليها إلا النفاق والتملق، وهذا بالطبع ما يجب أن يدونه المؤرخون ويؤكدوا عليه، مستشهدين بالوقائع والملابسات وكشف أسبابها ودوافعها.
الدكتور قاسم عبده قاسم أستاذ تاريخ العصور الوسطى بجامعة الزقازيق، قال إن التاريخ لا يكتب بل يحدث، وما يحدث الآن لم يكتب بعد، لأنها ثمة حوادث وتفاعلات، تحفظ الذاكرة المكتوبة منها ما يمكن حفظه والمرئية أيضًا، وأضاف قاسم: المؤرخون فى ظل الأدوات المعرفية من تطورات تكنولوجيا ووسائل إعلامية مختلفة أعطت التاريخ المرئى بالرغم من تدخلات المخرجين فيه بوجهات نظرهم أهمية كبيرة، ولكن هذا لا يلغى دور التاريخ المكتوب وأهميته أيضًا، ولكى تكتمل قراءة المؤرخ أو الباحث للتاريخ فعليه أن يفحص كافة المصادر مهما توفرت له، بالإضافة إلى أن المؤرخ سيكون أحسن حظًا حينما يكون قريبًا من الجيل، ويمكن التواصل مع جيل الثورة، ويقول قاسم هناك أناس يدخلون التاريخ من أوسع أبوابه وآخرون مثل مبارك ورجاله سيدخلونه من "أوسخ" أبوابه، وهم المنافقون والمهرجون وعبيد المال وأعداء الشعب، من الزبانية والجلادين والسفاحين مثل ضباط أمن الدولة وهم من فضحتهم الصور والفيديوهات على المواقع الإلكترونية فأكدت أنهم ليسوا بشرا، ولا يمكن حتى وصفهم بالحيوانات، ولهذا فالمؤرخ أمامه مخزون كبير سيلجأ إليه لتقديم قراءته حول كواليس الثورة وأحداثها، وهناك ردود أفعال يومية تعبر عن رأى الشارع إزاء أى موقف ما، هذه الردود هى أشبه برسائل نصية من جيل اليوم إلى الغد، هذه الرسائل يلتقطها الباحث والمؤرخ ويحللها ويقدم قراءته لها.
وأضاف قاسم: التاريخ سيسجل أنه "دائمًا ما تعمى السلطة بصائر من يمسكون بها، فلا يرون إلا أنفسهم ولا يسمعون إلا أصواتهم"، وليس عجبًا أن الدكتاتور "مبارك" احتفل فى مساء 23 يناير مع الجلاد العادلى وكبار الفسدة بعيد الشرطة، وبعدها بيومين بدأت العجلة تدور لتدهسهم، كل هذا يؤكد على أن التاريخ أشبه بالمسلسل الذى يعاد مرة أخرى، وهو ما نراه اليوم من ثورات تشتعل لها بلدان العالم العربى.
وحول التغلب على انحياز الكتاب مع أو ضد مبارك، يقول قاسم فى كل العصور يوجد منحازون، والمراجع المكتوبة دائمًا ما تكون بها شبهة الانحياز ومنهج البحث التاريخى يؤكد "أنه ليس هناك مصدر موثوق به من المصادر التاريخية"، بمعنى أن كل مصدر تاريخى يجب أن يخضع للنقد والدراسة والفحص، وما يحدث حينما يمسك الباحث بمصدر ويجد من يمدح الحاكم بشدة أو يتعنت ضده، يبحث عن موقع هذا الرجل فى المجتمع وعلاقته بالسلطة ومدى استفادته وتضرره من الحاكم، وأكد قاسم أن وثائق أمن الدولة مهمة جدًا لكتابة تاريخ مصر فى الأعوام القادمة، وما يحدث الآن فى تقديرى هو أشبه "ببيت يهد ويعاد تأسيس أعمدته من جديد" ففى خلال الستين يومًا الماضية بدأت الثورة بمطالب بسيطة ووصلت إلى آمالها، ولهذا فسوف يسجل التاريخ للمجلس الأعلى العسكرى وحكومة الدكتور عصام شرف دورها فى الحفاظ على الثورة.
"ملف مبارك لم يغلق بعد" هذا ما قاله الدكتور عاصم الدسوقى، موضحا أن كتابة تاريخ أى حقبة أو فترة حكم لأى دولة تبدأ حين تنتهتى السياسة، فلم يكن من الممكن كتابة تاريخ مصر فى عهد مبارك عام 2000 مثلاً أو نغلق ملفه فى 11 فبراير 2011، وهنا يصبح من الممكن البدء بدارسة هذه الحقبة دراسة علمية، يعتمد المؤرخ فيها على المصادر المتنوعة، وفى مقدمة هذه المصادر "أرشيف الدولة ومجمل الأوراق التى تحتفظ بها فى إداراتها المختلفة والتى تتصل بكيفية اتخاذ القرار فى كافة القضايا، وأيضًا من هذه المصادر مضابط مجلسى الشعب والشورى ومجلس الوزراء وتقارير السفراء الأجانب لحكوماتهم، فأنت تحتاج إلى عدد كبير من الوثائق، يتعين الاطلاع على كافة التقرير ما أمكن لتكوين رأى وهم يكتبون ما يرونه ويسمعونه لأهميتها البالغة، وأيضًا مذكرات السياسيين الذين عملوا مع مبارك إذا نشرت هذه المذكرات" بالإضافة إلى الصحف الحكومية والمعارضة سواء كانت مستقلة أو حزبية، وبعد استعراض كافة المعلومات يخرج المؤرخ برأى، ويعبر عنه بلغة نسبية وليس بلغة المطلق؛ لأنه مهما كتب فإن وجهة نظره جاءت بناءً على ضوء ما حصل عليه من معلومات ولا يمكن أن يكون قد حصل على كافة المعلومات فيكون حريصًا على استخدام الألفاظ الترجيحية وليست التأكيد مثل "ويبدو من ظهر الأحداث".
وأضاف الدسوقى: الأخطاء والمحاسن ستكون نسبية، فلا توجد حكومة على وجه الأرض منذ بدء التاريخ حققت رضاء الناس كافة فى المجتمع، ولكن تقييم هذه الحكومة يكون بقدر الذين استفادوا من سياستها، فإذا كان الذين استفادوا من سياستها أغلبية فوق 80% فهذه حكومة رشيدة، وأما إذا كانت سياستها لصالح قلة فهى حكومة طبقية، وبهذا المعيار سوف يخرج الباحث والمؤرخ بنتيجة، هى أن نظامى مبارك والسادات كانا لصالح قلة من المجتمع المعروفون إعلاميًا برجال الأعمال، وتركوا الشعب لمصيره أمام آلية العرض والطلب فازدادت البطالة والتشرد.
وأضاف الدسوقى: وثائق أمن الدولة مهمة جدًا ورسمية، سوف تفيد الباحث فى كيفية تعامل النظام مع المعارضة واختراق وتوريط الجبهات المعارضة، فمثلاً سنجد أن مصطفى النحاس حينما كان معارضًا كان خصومه السياسيون مثل إسماعيل صدقى يعملون على توريطه، ويضعون فى طريقه صحفية إيطالية، وكانت تدعى "فيرا" ولم يكن النحاس قد تزوج بعد وكان يلتقى بها فى إحدى العوامات على النيل بالعجوزة، وكان القصد من ذلك توريط النحاس ثم التشهير به ولكن النحاس كان واعيًا ولم يخطئ وتزوج بعدها.
أما الدكتور رفعت يونان: عضو اتحاد المؤرخين العرب، فقال: تدوين تاريخ أى فترة يكتب بعد إخراج الوثائق والمعلومات الكبيرة وتكون هذه المعلومات محفوظة لدى الدولة، وفى الغالب لا تخرج إلا بعد 20 عامًا، ويكون غالبية الشخوص والأبطال ممن كانوا على مسرح الحياة غير موجودين أو بعيدين عن الأحداث، والمتبع والمتفق عليه أن تكون الكتابة حيادية وبعيدة عن الأغراض الأهواء الشخصية وتصفية الحسابات وإلا ستكون هذه المعلومات عبارة عن قصص من تأليف الباحثين، ولهذا فإن تناول الباحثين لشخصية مبارك يجب أن يكون موضوعيا وشاملا، فلا يمكن لعاقلٍ حضر أو قرأ عن حرب أكتوبر 1973 ألا يشيد بالضربة الجوية، التى كان يشرف عليها، أما المساوئ فإن حسنى بدأ بداية طيبة ثم التف حوله المنتفعون وأصحاب المصالح وأبعدوا عنه نبض الشارع ودائمًا يقولون له إن الشعب فى منتهى السعادة ويسبحون بحمده وبحكمه حتى تحول الحكم رويدًا رويدًا وخصوصًا فى الـ 10 سنوات الأخيرة إلى ظهور الفساد فى جميع مؤسسات الدولة، وهذا طبيعى إذا كانت النسبة المحيطة بالرئيس تنتهك سيادة الفساد والاستيلاء على خيرات هذا البلد لصالحهم، ولذا حدثت الطامة الكبرى، وبدأ التذمر، والاعتصامات والمظاهرات تطالب بمقاومة الفاسدين وهو ما أوصلنا إلى ثورة 25 يناير.
ذكى البحيرى: أعتقد أن الباحثين والمؤرخين لا بد أن يعيدوا النظر فى كتابة تاريخ مصر بأكمله، حيث كان من المعتقد بأن الشعب المصرى شعب طيب لا يثور، ولا يمتلك القدرة على تغيير حكامه أو نظامه السياسى، ووصل الأمر إلى حد وصف الشعب المصرى مستسلم، حتى جاءت ثورة 25 يناير وغيرت نظرة العالم كلها، بما لا يدع مجالا لأى شك بأن الشعب المصرى من أعظم شعوب العالم وقدرة على الثورة والتغير.
وأضاف البحيرى: عندما نتصفح تاريخ مصر مرة ثانية سنجد أن هناك الثورة العرابية حركة ثورية مبكرة فى تاريخ مصر ضد الاستعمار وكانت الحركة الوطنية التى قادها مصطفى كامل ومحمد فريد حركة تدعو إلى الاستقلال السياسى لمصر، بعيدًا عن الاحتلال البريطانى كما تدعو وحدة مصر والسودان فى دولة واحدة بوادى النيل، ثم كانت ثورة 1919 من أولى الثورات التى ظهرت فى العالم بعد الحرب العالمية الأولى لشعبٍ يريد أن يزيل عنه ركام السيطرة الأجنبية الاستعمارية، ثم كانت أيضًا عملية مقتل السير دار ستاك 1924 موقف وطنى ثورى ضد الوجود البريطانى، حيث قامت خلية سرية من الحزب الوطنى الذى أسسه مصطفى كامل، باغتيال حاكم عام السودان وقائد عام الجيش المصرى وهو "ستاك"، ولم تقف الحركة الوطنية المصرية فى أى وقتٍ حتى قامت ثورة 23 يوليو 1952 المباركة، فغيرت النظام السياسى والاقتصادى والاجتماعى فى مصر، وأثرت على المنطقة العربية والأفريقية، حتى جاءت ثورة 25 يناير لكى تمكن المصريين من أن يقرروا مصيرهم، فلا ينبغى أن ننسى على الإطلاق ما حققه الشعب المصرى فى حرب أكتوبر المجيدة فى مواجهة الغطرسة الإسرائيلية والتواجد العسكرى الصهيونى فى سيناء، تلك الحرب التى جعلت الدول الغربية تعيد دراسة النظريات العسكرية بأكملها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة