مازلت أذكر أساتذتى، أولئك الذين علمونى شرف الكلمة، ومعنى الحب، وقيمة الحق، فقد كانوا حقا معلمين بمعنى وحقيقة الكلمة، واستحقوا أن يحملوا اسم أبو البشر آدم عليه السلام الذى علمه الله تعالى الأسماء كلها، ليكون المعلم الأول للبشرية، ولا شك أن الأمم لم تزدهر على مر العصور، إلا بأولئك المعلمين، ولكننا اليوم ومع ما نحن فيه من سعار الماديات، وطغيان الشهوة، نسينا قيمة العلم، ومعنى التعلم، وسقط سهوا من بين أيدينا أولئك العظام الذين أحيوا الأمم، وأعلوا فينا الهمم، وتبدلت الصورة، وصارت لشخص بلا روح، ولا معنى، ولا قيمة، أصبح نموذجا للجشع، والطمع والشره، صورة يمقتها الجاهل قبل المتعلم، وصار أبناؤنا بلا قدوة، فى المدرسة والشارع والبيت.
ولست متجنيا.. فالصورة حدها مغلق، وشبه كلية، ولا يكاد يستثنى منها إلا القليل من المدرسين، فها هى الصورة فى مدارس الحكومة، التى تعلمنا فيها لسان حالها يصف ويحكى، ما لا يمكن أن يتخيله عقل، ففى الصباح يقف المدرسون يحملون العصى على باب المدرسة، يضربون بلا رحمة وبلا شفقة، ويسقط عنهم قناع الملائكية المزيف، فينهرون ويسبون، ويتلفظون بألفاظ السوقة والغوغاء، وكأن هؤلاء الأولاد خرافاً نافرة، يجب السيطرة عليها، أو جرذان ضلت طريقها، ويجب القضاء عليها.
يدخل الأولاد الحوش فلا يجدون فيه شجرة مثمرة، أوعودا مورقا، أو زهرة يانعة، تريح العين، وتطمئن النفس، وتزكى العقل، ولكن هناك وعلى مد البصر، وفى كل ركن من الحوش، كومة كبيرة من الأخشاب والحجارة، تزينها أكياس الشيبسى والكاراتية، فى منظر تربوى رائع، لا تخلو منه مدرسة حكومية، ولا تجد طابوراً يعلم قيمة النظام، ولا علماً يحيى يعلم قيمة حب الوطن، ولا كلمة صباح تصل الطالب بربه، أو بقضايا وطنه، ولا تمرينات رياضية، تنشط الأجساد قبل تنشيط العقول.
الكل يجرى على الفصول، خوفا من لسع العصا، وحدث عن الفصول ولا حرج، لا حوائط مدهونة، الشقوق فى كل الجدران، الرمل يسقط منها على الأرض التى تشكو العمال المتنطعين، فى كل شبرمن المدرسة، يبحث كل منهم عن سبوبة "شاى - قهوة - سنوتشات – بسكوت - سجاير - لب - شيكولاتة - أدوات دراسية" ولا وقت لديهم لدخول الفصول، أو كنس الأرض التى تكسوها الحشرات، وتشغى فيها القوارض، أو تنظيف المقاعد، وحدث ولا حرج، فجميعها مكسور، على شكل مرجيحة، تخرج منها المسامير ألسنتها، لتقطع بناطيل وجيبات الأولاد، حتى يشتروا غيرها من محلات حضرة الناظر، القريبة من المدرسة.
الجرس ضرب والبيه المدرس بيشرب السيجارة أمام الفصل، ليشتم التلاميذ منه رائحة الكير القذرة، بدلا من رائحة المسك العطرة، يحمل بيديه العصا، ينادى عليه زميل آخر فيجد ضالته يذهب مسرعا إليه، يتحدث معه عن "الكورة - برامج التوك شو- الأهلى والزمالك - حسام وإبراهيم - حسن شحاتة - التاكسى ولا الميكروباص بتاعه - مراته اللى منكدة عليه عيشته - ولا الأبلة فلانة والأستاذ علان"، يأتى الناظر بسرعة، على صوت الأولاد، يقول: بس يا ولاد "...." .. فين الأستاذ؟ ينادى عليه: "سايب الحصة يا بيه!!! يأتى الأستاذ قائلا: "هى الدنيا طارت، دول ما بيفهموش حاجة، وما فيش فايدة فيهم ولا معاهم، خليهم يروحوا يشتغلوا فى المعمار، أو يلموا الزبالة أحسن".
يدخل البيه الفصل مكشرا عن أنيابه، لا كشكول تحضير ولا كتاب، ولا طباشيرة، ولا قلم، ولكن معه سلاحه الذى يحارب به الأعداء" العصا لمن عصا" ويقوم بضرب الجميع، بلا هوادة أو رحمة، قائلا لهم أجمل معانى البلاغة، والأدب العربى والفرنسى والإنجليزى "جبتولى الكلام يا ولاد "....." ولا يشعر للحظة، أنهم بلا ذنب، أو خطيئة، إلا أن آباءهم يريدون أن يعلموهم، ولكنهم يعلمون أنه لا فائدة من التعليم، فلا وظائف بعد التخرج، ولا مكانة اجتماعية فى انتظارهم، ثم يعلن الأستاذ أنه مضرب عن شرح الدرس، وتنتهى الحصة، بعدما ينذر ويتوعد الجميع، بألا يتأخروا عن مواعيد الدرس الخصوصى، ولا ينسوا أجر الحصة، أما المدرسات فهن قصة أخرى وحدوتة من ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة.
وهكذا يتكرر السناريو فى كل حصة، ولا يحصد أبناؤنا إلا الضرب على أيديهم وأجسادهم كالحيوانات، وتحيا عيونهم فى الظلام، ولا ترى نور العلم، وتصم أدمغتهم وتتوه عقولهم، وتختلف المعانى والقيم والمفاهيم، ونسب نحن الآباء بأقذع الشتائم، ولا حق لنا فى الدفاع عن أنفسنا وأبنائنا.
ولست متجنيا.. فهذا نموذج آخر للمدرس بعد الظهر، وليكن مدرسا ابتدائيا، ليس إعداديا أو ثانويا، سعادة البيه يذهب المدرسة الساعة 8، ويعود الساعة 11، يذهب للمحل الخاص به "ملابس - مكتبة - إكسسوارات حريمى- قطع غيار- محل موبايلات... إلخ"، وفى الساعة 1 ظهرا تبدأ أول ضفة من الطلبة، يقلبهم أوام أوام على الساعة 2، ويستمر هكذا حتى ينهى عليهم جميعا، وكل ضفة ما بين الـ25 والـ30 طالبا، اضربهم على الآلة الحاسبة، فى 6 سنوات من أولى ابتدائى، حتى الصف السادس، يعنى من 150 إلى 180 طالبا، اضربهم فى 50 جنيه على الراس، يعنى بيتحصل على مبلغ شهرى من 7500 جنيه إلى 900 جنيه، نضربهم فى 11 شهر فى السنة، لأنه لا يحصل على إجازة إلا فى شهر 7 فقط ويبدأ الدروس من شهر 8 "يعنى عيشته زى الورد والفل والياسمين، ولكنه محتاج من الدولة كادر وحافز.
هذا هو حال المعلم والتعليم فى مصر، ولست متجنيا.. وأرى أن نلغى وزارة التعليم، وبلا من الملايين التى يتم صرفها بدون داعٍ، ولا داعى للموجهين الذين يتم شراء زممهم بعلبة حلاوة، أو زيارة بط وفراخ ، والنظار والمديرين المكسور عينيهم، بأكلة أو عشوة أو سيجارة، وكفاية على أولادنا الدروس الخصوصية، ونوفر فلوسنا ومنهنش ولادنا.
عدد الردود 0
بواسطة:
أبو آية الوقفى
من أنت ؟
عدد الردود 0
بواسطة:
عبد المنعم
الفاضى