تأتى ذكرى الشاعر الكبير صلاح جاهين الـ 25 وسط زحام الأحداث التى تمر بها مصر، ووسط جدل كبير بين أطراف العمل الوطنى حول شكل الدولة وشخصيتها، وهذا ما يستدعى المعركة التى كان طرفاها كلا من شاعر العامية الأكبر صلاح جاهين والإمام العالم محمد الغزالى، ليس من باب فتح الدفاتر الساخنة فحسب، وإنما لنعرف كيف كان يختلف الكبار.
بدأ الخلاف مع مطالبة الشيخ محمد الغزالى للرئيس جمال عبد الناصر، فى عام 1962 بتحرير القانون المصرى من أية تبعية أجنبية، كما طالب بضرورة المحافظة على احتشام المرأة والمحافظة على طبيعتها الأنثوية، مؤكدا أهمية ارتدائها الحجاب، وفى اليوم التالى نشر الأهرام كاريكاتيرا لـ"صلاح جاهين" رسم فيه الشيخ الغزالى وهو يخطب فى الجماهير ويقول: "يجب أن نلغى من بلادنا كل القوانين الواردة من الخارج كالقانون المدنى وقانون الجاذبية الأرضية"!!
هنا اشتعل الموقف وهاجم الغزالى جاهين، وأوضح أنه لم يهاجم القوانين العلمية الثابتة وإنما يرفض أن يظل الشرق العربى محكوما بالقانون الفرنسى، وطالب الغزالى الذى ظن أن هجوم جاهين كان على شخصه لا على فكرته بأن تحترم الصحف السيارة نفسها، فما كان من الأستاذ محمد حسنين هيكل رئيس تحرير الأهرام آنذاك إلا أن يقول إن الأهرام تقدس الدين وتحترمه إلا أنها ترفض أن يتحول الخلاف بين جاهين والغزالى إلى خلاف دينى.
عاد "جاهين" ليرسم كاريكاتيرا آخر يظهر فيه مجموعة من المشردين يسألون الغزالى "أين الكساء يا مُشرع الأزياء.. لماذا لا تتكلم إلا عن ملابس النساء؟" فيرد الغزالى: "ما باتكلمش عنكم يا جهلاء لأنكم ذكور.. وما ظهر من جسمكم ليس عورة!".
وفى عدد الجمعة من نفس الأسبوع نشر "جاهين" 6 رسوم كاريكاتيرية دفعة واحدة ثم أتبعهم بقصيدة قال فيها:
هنا يقول أبوزيد الغزالى سلامة
وعينيه ونضارته يطقّو شرار
أنا هازم الستات ملبسهم الطرح
أنا هادم السينما على الزوّار
أنا الشمس لو تطلع أقول إنها قمر
ولو حد عارض.. يبقى من الكفّار
ويا داهية دقى لما أقول ده فلان كفر
جزاؤه الوحيد الرجم بالأحجار
فأحسن لكم قولوا (آمين) بعد كلمتى
ولو قلت الجمبرى ده خضار
يومها ألقى الشيخ الغزالى خطبة قوية، هاجم فيها صلاح جاهين؛ ودافع عن مكانة العالم، الأمر الذى دفع بالكثير من الحضور للتظاهر أمام مبنى الأهرام احتجاجا على رسومات "جاهين"!! فتدخل الأستاذ هيكل مرة ثانية ليعقد لقاء للمصالحة فى مبنى الأهرام بين الغزالى وجاهين وتم التصالح فى بساطة تضارع حدة الخلاف وحرارته.
يقول الدكتور محمد عبد المطلب أستاذ الأدب العربى بجامعة عين شمس: برغم عدم اقتناعى بتدخل رجال الدين فى أمور الإبداع إلا أننى أحترم هذا الخلاف، وأقدر طرفيه ذلك لأنه خلاف بين فكرتين، ورأيين، ومدرستين فى الفهم والتصور، وهو ما نحتاجه الآن فى خلافاتنا التى أصبحت خلافات حول مصالح شخصية ومنافع وابتعدت تماما عن الأيديولوجى والمعرفى.
وأوضح عبد المطلب أن كثيراً من رباعيات جاهين تحمل ما يمكن اعتباره تجاوزا للمطلق، ومع هذا لم يهاجمها الشيوخ فى حينها لأن درجة الوعى بطبيعة النص الأدبى الإبداعى كانت أكثر بكثير مما نحن عليه الآن.
فيما يرى الشاعر أحمد سويلم أن الخصومة بين الشاعر والشيخ كانت تتميز بالجدية وصدق النوايا بينما نفتقد الآن فى خلافتنا إلى مشروع يوحدنا، وهم وطنى حقيقى نحتكم إليه، لافتا إلى أن تحول المثقف من دوره النقدى إلى موالاة السلطة دفعها إلى تبنى أجندة الخصومة السلطوية، مما أدى إلى تحول كثير من الخلافات البسيطة إلى وسيلة للتقرب للسلطة بجعلها طوال الوقت حية ومتأججة دون داع!
وتطرق سويلم إلى مسألة الشهرة والرغبة فى الظهور الإعلامى والـ"شو" من جانب بعض المثقفين "الذين يتعمدون الاحتكاك برجال الدين فى مناطق إساءة الفهم وأحيانا فى تجاوزات متعمدة بغرض الشهرة مثلما فعل من قبل أحد الشعراء مع شيخ الأزهر"!
وقال: على كل من الشاعر والشيخ أن يدرك وظيفته فى بناء وطنه، وألا يتعمد التصيد والتربص وأن يسقط حسابات المنفعة الشخصية كى يهدأ الخلاف، ويعود إلى سيرته الأولى أيام الرواد مثل العقاد وطه حسين الذى كان الواحد منهم يطحن صديقه نقاشا ثم نجدهم يتسامرون ويتضاحكون كأن لم يكن!!
عدد الردود 0
بواسطة:
منتصر حلمي
الله يرحم صلاح جاهين