لم تكن الدعوة إلى الإسلام فى بدايته ميسورة بالقدر الكافى رغم إيمان أهل قريش بآخر الأنبياء وبشارة الإسلام، وعندما هاجر رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم كان معه نفر قليل آمنوا بدعوته التى اتسعت رقعتها فى يثرب ببناء المسجد النبوى عندما بركت الناقة المأمورة من الله، وفى العام الحادى عشر للهجرة المباركة وبعد حجة الوداع انتقل سيدنا محمد إلى الرفيق الأعلى، وتولى خلافة المسلمين سيدنا أبو بكر الصديق – رضى الله عنه – وكانت أمامه مهام جمع القرآن والقضاء على الردة ومنهج الفتوحات الكبرى، حيث ظهرت علامات كبيرة للمرتدين عن الإسلام فحاربهم أبو بكر حتى انتصر عليهم، وجاء من بعده الفاروق عمر وسيدنا عثمان ثم تلاهم سيدنا على الذى لم يقضِ سوى أربع سنوات فى الخلافة التى آلت للأمويين سنة 40 هـ فى عاصمتهم دمشق، وهنا ظهر المتشيعون فى حب سيدنا على ضد هيمنة الدولة حتى قتل سيدنا الحسين عام 61 من الهجرة فى يوم عاشوراء فى واقعة كربلاء، وهى مناسبة ينتحب فيها الشيعة فى شتى أرجاء العالم الإسلامى متشحين بالسواد، وخاصة فى إيران والعراق وسوريا والجنوب اللبنانى، ثم ظهرت عقب ذلك جماعة المعتزلة وزعيمهم واصل بن عطاء الذى اختلف مع أهل السنة على أمور دنيوية، حتى قال أبو موسى الأشعرى لقد اعتزلنا واصل فى قضية القدرية الإلهية للخير والشر.
العباسيون ظلت خلافتهم للإسلام زهاء خمسة قرون انتابتهم قضية "خلق القرآن"، وهو ما رفضه الإمام أحمد بن حنبل فزج به المعتصم إلى غياهب سجنه سنى طويلة لم ترهبه الأسوار فى موافقته للخليفة على خلق القرآن، وهو ما يدعو إلى أن المخلوق يعيش ويموت مثل الإنسان، ولكن الإمام ثبته الله عند قوله بأن القرآن منزل من عند الله بوحيه ولا يأتيه الباطل من خلفه ولا من أمامه ولا مبدل لكلماته، حتى رضخ بنو العباس لرأى الإمام وأفرجوا عنه مفتياً للخلافة وإماماً.
وإبان حكم بنو العباس ظهرت حكومات متوالية أدارت شئون البلاد الإسلامية مثل بنى البويه والسلاجقة، وهو مبدأ الدولة البرلمانية الذى مازلنا ندرسه حتى الآن ومعمول به فى بريطانيا العظمى ودول عديدة.. وفى ذلك الحين ظهرت الدولة الفاطمية فى حكم مصر، فبنى جوهر الصقلى القاهرة وشيد سوراً لحمايتها، وتم بناء القلعة الصامدة حتى يومنا هذا، فظهرت المتصوفة الذين يذوبون فى حب الله حتى الفناء ويأكلون القديد - وهو لمن لا يعلم اللحم المستوى على أشعة الشمس بعد ذبحه ويلبسون الخشن من الثياب، ولا يهتمون بالسياسة أو تداول السلطة، ويذكرون الآخرة، ويجعلونها أمام أعينهم حتى يلاقوا ربهم ويتباركون بالأضرحة، ويعظمون شأن الأولياء متفقين فى ذلك مع الشيعة ما عدا الحكم الذى يسعى إليه الشيعة.
وفى عام 1928 ظهرت بشارة الإمام حسن البنا الطالب بكلية دار العلوم وأحد تلاميذ جمال الدين الأفغانى والإمام محمد عبده بضرورة بعث جماعة الإخوان المسلمين التى تأخذ كل إيجابيات ما قبلها، وتتخلص من كل السلبيات، فلاقى عنتاً شديداً حتى تم تعيينه مدرساً للغة العربية والشريعة الإسلامية بأحد معاهد الأزهر التعليمية بمدينة الإسماعيلية فى ذات العام، وهنا علا نجم الإمام وأتاه مريدوه من كل مكان وتم صك ميثاق الجماعة فى عهد الملكية وزاد الله من أعدادهم، وبارك فى رجالهم حتى امتدت إلى بلدان عربية وآسيوية، على أن يكون المرشد الأعلى لها فى مصر متوازياً ومتقابلاً مع المرشد الأعلى لإيران؛ فى وحدة الهدف واختلاف المنهج.
وكان للجماعة دور كبير فى إعمار ثورة يوليو 1952 واستمالة قلوب الشعب، وفى دورها نحو الانخراط فى الحياة السياسية والتمثيل البرلمانى حتى تصبح مصر إسلامية تطبق الشريعة الإسلامية السمحاء مع الاحتفاظ بحقوق الأخوة الأقباط وتمثيلهم برلمانياً، حتى تراك احتفاظهم بمرشحين أقباط على قوائمهم، ومكتب الإرشاد هو السلطة الأعلى لهذه الجماعة التى قام عبد الناصر بحلها عام 1954، ولكنها ظلت متخللة فى النقابات والأحزاب ودور العبادة رغم أن عبد الناصر شنق سيد قطب - أو أعدمه - فلم يفت ذلك فى عضدهم.
وحينما بدأت تظهر فى مصر الشيوعية والماركسية فى بداية حكم السادات وعلا نجم الناصريين.. عقد الرئيس الراحل أنور السادات مع مرشد الإخوان عمر التلمسانى صفقة بموجبها تعمل جماعته علانية فى الجامعات والنقابات ودور العبادة، وذلك للحد من الغزو الفكرى الذى طغى على الشباب، وكان للسادات ما أراد ولكن ارتقت هذه الجماعة منزلة عليا فى نفوس الشعب حتى بدأت تظهر جماعات أخرى مثل الجماعة الإسلامية والسلفيين فى برامج مغايرة عن برامج الإخوان.
والمتصوفة هم وحدهم أصحاب التنظيم الرسمى علاوة على الأشراف فهم داخل الأضرحة والمساجد يقيمون حلقات الذكر فى جماعات متنوعة مثل الإثنى عشرية وجماعة جعفر الصادق وغيرهم، فتجد بين ظهرانيهم ساسة وبرلمانيين كباراً ونقابيين وفنانين وصحفيين فى مساجد السيدة نفيسة خاصة والسيدة زينب وسيدنا الحسين فيقيمون الموالد السنوية لهم أيام معلومة، ويشدو الشيخ ياسين التهامى من نظمه الخاطرى:
رأيت ربى بعين قلبى وقلب مكلل بالذهب وجميعها خواطر نورانية تأتى الشيخ دون حفظ أو ترتيب كما قال ذلك عن نفسه، ويظل يشدو حتى يهيم مريدوه على وجوههم فى الأرض مغشى عليهم فى حب الله وهو ثابت لا يتزعزع على أنغام موسيقى هادئة وبسيطة.
كان النظام السابق يساعد على ذلك ويحفز عليه ويروج له إعلاميا، وكان الجميع يردد أن مصر محظوظة بفضل أوليائها الصالحين، وعندما منع محافظ القاهرة السابق ووزير الأوقاف السابق موالد هؤلاء العام الماضى، وحاربوا هذا الفكر علانية قيل إن سدنة الحكم سينفلت عقدها، وهو ما حدث قبيل أن يمر العام نفسه، وهذه خواطر يسوقها البعض، ويرى أن أمن مصر وأمانها فى دور العبادة والمآذن والكنائس، ويجب ألا يقترب أحد من عادات المصريين التى ورثوها منذ قديم الأزل، وهناك عادات أخرى مثل الاحتفال بشم النسيم وتحمير البيض وسعف النخيل وليلة رأس السنة الميلادية، وكان فى الماضى عيد وفاء النيل فى النصف الثانى من أغسطس، وهناك الاحتفال بميلاد المصطفى صلى الله عليه وسلم الذى تعظمه مصر كل عام، ويتبادلون فيه الحلوى بأشكال وألوان مختلفة، وهو مبدأ أتى من الفاطميين وظل حتى اليوم.
لقى السادات مصرعه من على المنصة فى 6 أكتوبر عام 1981، وهو أمر مازال محل مد وجزر حول عملية الاغتيال.
وتولى النظام السابق الحكم الذى فوجئ بأن أمر الجماعات الإسلامية أصبح واقعاً – لا محالة – وبدأت الظاهرة جلية إلى أن قام الشيخ صلاح أبو إسماعيل عضو مجلس الشعب والأمين العام لحزب الأحرار فى دورة 1987 – 1990 وهو رجل إخوانى شامخ فكراً وبناءً جسدياً حباه الله به فإذا به يصفع وزير الداخلية الأسبق – زكى بدر – على وجهه أمام الكاميرات داخل أروقة مجلس الشعب، ويتهمه بالكذب وشاركه فى ذلك طلعت رسلان عضو المجلس الوفدى عن الشرقية آنذاك، ولم يستطع النظام السابق أن يصنع شيئا مع الشيخ أبو إسماعيل نائب دائرة أوسيم المتغلغل فى حب دائرته حتى الجيزة محافظته وأطراف متعددة من مصر، أيقن هنا النظام أن وأد الإخوان ضرورة عصرية ملحة فى إبان تولى زكى بدر حكم الداخلية 1986 – 1990، ولكن عندما حل محله عبد الحليم موسى الذى تبنى فكرة الحوار مع أطراف الفكر الدينى فى مصر لاقت هذه التجربة ثمارها بعد الإفراج عن آلاف المعتقلين من الشباب وغيرهم فى حقبة الثمانينيات وواصل الألفى هذا الحوار.
واحتفظ النظام السابق بضرورة إبعاد بعض أمراء جماعة الإخوان عن مقاعد البرلمان مثل إسقاط حازم صلاح أبو إسماعيل علانية بعد إعلان نجاحه بدائرة الدقى خوفاً من مواصلة تاريخ والده، وهذا الرجل صاحب المبدأ الذى مثل المحامين فى مجلس النقابة العامة دوره واحدة 2005 – 2009، واعتذر عن الدورة الحالية وأفسح المجال لغيره، وكذلك تم إسقاط الشيخ مأمون الهضيبى دورات عديدة فى الدقى علانية رغم أن النظام السابق أفسح المجال أمام 88 عضوا فازوا بمقاعد الشعب فى البرلمان عام 2005 فى انتخابات شبه حرة.
واليوم بدأت الجماعة الإسلامية فى الظهور علانية بعد خروج أقطابهم من السجن وإعلانهم المشاركة فى الحكم بدخول حلبة المنافسة الرئاسية والبرلمانية، وهو ما تجلى فى كلمات عبود الزمر وشقيقه طارق - ولم يفت السجن فى عضدهم طيلة ثلاثين عاماً - خلف القضبان، أما الإخوان الأكثر عدداً والأكثر تنظيماً عن الجماعات الأخرى مسيطرون منذ اللحظة الأولى لقيام الثورة ومبادئهم معروفة، وإذا ما تمت انتخابات برلمانية فستكون نسبتهم أكثر من 25% فسبق حصولهم على 17% فى انتخابات 2005 رغم عمليات التزوير فى بعض الدوائر، ولكنهم لم يتطلعوا إلى الانتخابات الرئاسية، مؤكدين على شمول قوائمهم بعض الأقباط فهم أصحاب الفكر الشمولى، ويدعون إلى مشاركة كل فئات الشعب معهم بالحوار وهم غير متزمتين على الإطلاق، وليس النقاب هدفاً أساسياً أو الحجاب، ولكن قد يأتى ذلك بالدعوة السلمية وليس باليد.
أرى المسرح السياسى فى مصر تعلوه الأفكار والرؤى الدينية أكثر مما سبق، وهى فرصة سانحة لخطوات لابد من اقتناصها لكل من تسنح له الفرصة ليفعل ما يريد من أجل الجميع.
• نقيب المحامين ورئيس اتحاد المحامين العرب
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة