أحمد طه النقر

الأطباء الثلاثة

الخميس، 21 أبريل 2011 08:26 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
"المجد للشيطان.. معبود الرياح.. مَن قال "لا" فى وجه من قالوا "نعم" ..مَن علّم الإنسان تمزيق العدم.. مَن قال "لا".. فلم يمت، وظلّ روحا أبديّة الألم".. أمل دنقل من قصيدة "كلمات سبارتاكوس الأخيرة".

عندما يُكتب تاريخ مصر الحديث بحيدة وتجرد وصدق سيذكر أسماء ثلاثة أطباء بارزين قالوا "لا" بصوت عال فدوت صرختهم النابضة بالرفض النبيل فى أربعة أركان مصر حتى هزت عرش الطاغوت وهدمته على رأس قائد دانت له خزائن الكنانة ومصائرها فى لحظة تاريخية فريدة ولكنه أبى أن يدخل التاريخ بطلا وفضل دور اللص أو بالأحرى رئيس العصابة!!.. أحس ثلاثتهم بنبض الجماهير وعايشوا آلامها فاختاروا طائعين بشرف وإيثار الانحياز إلى الشعب والدفاع عنه ضد ثالوث الجهل والفقر والمرض..أولهم هو "طبيب الفقراء" الدكتور محمد غنيم ..وكان لى شرف المشاركة مع كُتاب آخرين فى إطلاق هذا اللقب عليه ، ولكن يتعين الاعتراف بأن صاحب الفضل الأول فى إسباغ هذا اللقب المستحق هم الجماهير الذين وجدوا فيه "الحكيم" الآسى لجروحهم بالمجان ودون مَن أو أذى..الأغلبية الغالبة من فقراء هذا الشعب وخاصة أمثالنا من الفلاحين ولدوا فى أحضان النيل الذى منحهم الحياة ومعها البلهارسيا.. وعبر البلهارسيا عرفوا أمراض المسالك والُكلى وعانوا الكثير من الآلام ابتداء من المغص وحتى الفشل الكلوى الكامل والسرطان.. وفى رحلة البحث عن العلاج اصطدموا بالعديد من أدعياء الطب المتاجرين بأوجاع الغلابة ..ولكنهم وجدوا أيضا الكثير من المؤمنين برسالة الطب السامية والحافظين لقسم ابيقراط وشرف المهنة ممن بعثهم الله شفاء للناس من غول الأمراض وهولها.. وكان إمام هؤلاء وأميرهم بلا منازع هو الدكتور محمد غنيم الذى فضل محراب الطب والعلم واستغنى بهما عن عَرَض المال والجاه.

وثانى الأطباء الثلاثة هو الدكتور محمد أبو الغار الذى لم يكتف بالنبوغ فى طب النساء والتوليد والريادة فى علاج العقم وتطوير تقنية أطفال الأنابيب، بل خاض غمار العمل العام وانخرط فى مكافحة الفساد والاستبداد وإن كان إسهامه الأهم تمحور حول الدفاع عن استقلال الجامعة والحريات الأكاديمية.. وكان لمجموعة 9 مارس التى أسسها مع نخبة من خيرة الأساتذة الجامعيين دور جوهرى فى إثراء ودفع الحراك السياسى الذى هز ديكتاتورية الفساد والاستبداد ومهد الطريق لثورة الشعب فى 25 يناير.. ولا أتذكر مظاهرة أو وقفة احتجاجية كان لى شرف المشاركة فيها على سلم نقابة الصحفيين أو على باب دار القضاء العالى أو غيرهما من أماكن الاحتجاج المعروفة إلا وكان الدكتور أبو الغار أول الحاضرين وآخر المغادرين.

وعندما يأتى دور الطبيب الثالث، يطول الكلام ويتفرع ليس لأن دوره فى الحراك السياسى الذى أفضى الى ثورة 25 يناير هو الأهم على الإطلاق من وجهة نظرى.. ولكن لأنه دوره تعرض ولا يزال لظلم إعلامى فادح وفاضح..ولكى أُلقى الضوء الكافى والكاشف على دور هذا المناضل الرائع الذى أزعم أننى عايشته عن قرب، لا بد من العودة الى حركة كفاية ودورها الحيوى فى إعادة ملء بحر السياسة الذى جففته عصابة مبارك ونظامه البوليسى.. ولعلى لا أكون مبالغا أو مجافيا للحقيقة إن ذهبت إلى أن البذرة الأولى للحراك الذى أنجب ثورة 25 يناير أُلقيت فى انتخابات نقيب الصحفيين عام 2003 عندما هز الساحة السياسية زلزال أو تسونامى (موجات المد البحرية العاتية التى تعقب الزلزال الكبير) عنيف تمثل فى انتفاضة تاريخية عظيمة لشرفاء العاملين فى بلاط صاحبة الجلالة أسقطت مرشح الحكومة لمنصب النقيب ربما للمرة الأولى فى تاريخ النقابة وانتصرت لشعار "التغيير" الذى رفعه النقيب المحترم جلال عارف.. ورغم ثقتنا منذ انطلاق الحملة فى النجاح إلا أننى لا بد وأن أعترف بأن سقوط مرشح الحكومة المدعوم بـ"جزرة" الرشاوى والوعود المادية كان مفاجأة مدوية للجميع.. ولا أزال أذكر تلك اللحظة العبقرية التى استقبلنى فيها الزميل والصديق ابراهيم عيسى بالأحضان فى مدخل النقابة صارخا فى فرحة هستيرية "نجحنا يا أحمد..نجحنا.. يا أحمد""..!!.. وأذكر أيضا تدفق المراسلين والصحفيين الأجانب على مقر النقابة يسألوننا مرارا وتكرار عما حدث وكيف حدث.

كان تحرر نقابة الرأى والحرية من أغلال السلطة ومؤامرات أمن الدولة انتصارا لسلطان الكلمة على كلمة السلطان، على حد تعبير نقيبنا وأستاذنا الراحل كامل زهيرى، بل كان بداية تحرر مصر كلها إذ تحول سلم نقابة الصحفيين إلى ساحة للحرية وملاذا لكل الثائرين على فساد عصر مبارك واستبداده.. وإذا كانت حركة كفاية قد ولدت فى مؤتمرها الشهير الذى عقد فى جمعية أبناء الصعيد بشارع رمسيس فإنها شبت عن الطوق وترعرعت على سلم نقابة الصحفيين "المحررة".. ثم توالت الانتفاضات والاحتجاجات بعد أن كسرت كفاية حاجز الخوف ونزلت إلى الشارع فكانت انتفاضة حماة العدالة التى قادها نادى القضاة برئاسة المستشار زكريا عبد العزيز.. ثم حركة 6 أبريل فالمظاهرات الفئوية ..حتى مجموعة "كلنا خالد سعيد" التى تزامنت مع ظهور الدكتور محمد البرادعى الذى القى حجرا مقدسا فى بركة السياسة الآسنة وكان واحدا من أبرز ملهمى وزعماء ثورة 25 يناير.. وذلك هو رأيى على الأقل رغم الكثير من التحفظات على أداء البرادعى قبل وبعد الثورة..وهنا أود أن أشير إلى حقيقة أن الموجة الأخيرة من تسونامى الغضب الذى خنق نظام مبارك وأغرقه فى شر أعماله تمثلت، فى اعتقادى، فى الطريقة البشعة التى قتل بها الشهيد خالد سعيد ونجاح حملة "كلنا خالد سعيد" على الفيس بوك فى كشف وحشية الجناة وإبراز تواطؤ النظام وتعرية أكاذيبه.. فالحادث الذى فجر الثورة هو مقتل خالد سعيد وإن كانت الشرارة جاءت من ثورة تونس التى فجرها محمد البوعزيزى.

وأعود إلى ثالث هؤلاء الأطباء البارزين وهو الأستاذ الجليل الدكتور عبد الجليل مصطفى طبيب القلب والباطنة المشهور الذى عاصرتُ وعايشتُ انخراطه فى الحراك السياسى بعد انطلاق حركة كفاية.. كانت لنا لقاءات عديدة فى عيادته الخاصة بمنطقة باب اللوق تعرفت خلالها على مناضل من طراز فريد ورفيع.. يعشق الوطن ويبذل فى سبيله من ماله ووقته وجهده الكثير فى غير مَن أو استعراض ..بل إنه يدمن إنكار الذات ويتعمد الابتعاد عن وسائل الإعلام رغم مطاردتها له ، فى الوقت الذى سعى غيره إلى الأضواء وتكالب عليها حتى أحرقتهم..كانت حركة كفاية توشك على الاحتضار حيث دبت فى صفوفها الخلافات والانقسامات، وهنا ظهر المعدن الأصيل للمناضل المثال عبد الجليل مصطفى.. تحولت عيادته إلى مركز للم الشمل وتقريب وجهات النظر.. وفى الوقت الذى ابتعد فيه الكثير من الأعضاء المؤسسين، وبينهم كاتب هذه السطور، يأسا وإحباطا واحتجاجا على أداء بعض القيادات وما رأوا أنه تحول للحركة من فعل جماهيرى فى الشارع إلى ظاهرة فضائية (نسبة للفضائيات)، أصر الدكتور عبد الجليل مصطفى على الاستمرار ومحاولة إصلاح الحركة من داخلها.. وبذل جهدا مخلصا وخارقا فى إقناع الدكتور عبد الوهاب المسيرى بتولى مهمة المنسق العام للحركة.. وكان للدكتور المسيرى دور حيوى فى بعث الحياة فى الحركة وتكثيف وجودها فى الشارع.. بل كان يصر على قيادة المظاهرات مع السيدة الجليلة حرمه رغم اعتلال صحته ووحشية قوات الأمن.. وكاد الدكتور المسيرى أن يفقد حياته فى إحدى المظاهرات أمام مقر حزب التجمع عندما أمر ضباط أمن الدولة جنود الأمن المركزى بضرب قادة المظاهرة بلا رحمة فما كان منهم إلا استخدام الهراوات بلا تمييز ولولا أننى سارعت والزميل محمد عبد القدوس وبعض المتظاهرين الذين أحسوا بالخطر على حياة الدكتور المسيرى، بتشكيل حلقة بالأجساد حول المنسق العام لحركة كفاية، لكان سجل حسنى مبارك ووزير داخليته قد شهد جريمة قتل بشعة أخرى.

وبعد وفاة الدكتور المسيرى كان هناك إجماع على اختيار الدكتور عبد الجليل مصطفى خليفة له، ورضخ الرجل لرغبة الأغلبية ولكنه اشترط أن تنتهى مهمته بنهاية ولاية الدكتور المسيرى.. غير أن القدر شاء أن تجرى تحت الجسر مياه كثيرة حيث ظهر الدكتور محمد البرادعى على المسرح وشهدت الساحة السياسية مولد الجمعية الوطنية للتغيير التى اختارت الدكتور حسن نافعة منسقا عاما لها حتى استقال لينعقد اللواء للدكتور عبد الجليل مصطفى.. وهنا تجلت من جديد عبقرية هذا الرجل فى التنظيم والتخطيط وتحريك الشارع..ومنذ الإعلان عن خطط التظاهر فى يوم 25 يناير تحولت عيادة باب اللوق الى غرفة عمليات.. وتواصلت هذه المهمة حتى نجاح الثورة.. ولكن فى الوقت الذى تفرغ فيه بعض صناع الثورة ومعهم العديد من الأدعياء والانتهازيين للفضائيات وتركوا الساحة للثورة المضادة ، واصل الدكتور عبد الجليل نكران الذات وترك القاهرة بأضوائها ليسعى مع نفر من الجنود المخلصين للثورة الى الاقاليم والقرى ليشرحوا للناس أهداف الثورة وغاياتها النبيلة..إنها سيرة مناضل عظيم يذكرنى بأعظم ثوار العصر الحديث تشى جيفارا (وهو طبيب أيضا) الذى رفض السلطة والأضواء بعد نجاح الثورة الكوبية وعاد للنضال فى الحقول وسط الفلاحين حتى قتلته المخابرات الأمريكية.. وسبق أن أعلنت فى نقابة الصحفيين، ولا زلتُ على هذا الرأى، أنه لو كان الأمر بيدى لاخترت الدكتور عبد الجليل رئيسا للجمهورية لأنه الأجدر بهذا المنصب بلا جدال.

إنهم ثلاثة أطباء يعرفون جيدا أوجاع وآلام هذا الوطن ولو أنصفنا وأردنا خيرا" عميما وأكيدا" لهذا البلد لشكلنا من ثلاثتهم ، ومعهم المشير محمد حسين طنطاوى، مجلسا رئاسيا يقود مصر الى بر الأمان ويرعى عملية الانتقال الديمقراطى فى هذه المرحلة الصعبة حتى تتهيأ التربة لإجراء انتخابات رئاسية ونيابية نزيهة ومتعددة تحصل فيها جميع مكونات المشهد السياسى على فرص متكافئة للتنافس.. لقد اثبت جيش مصر العظيم أنه الابن البار للشعب وحمى ثورته وتعهدها بالرعاية، ونرجو أن يتم الجميل ويكمل المهمة بضمان إقامة الدولة المدنية على أساس المواطنة وسيادة القانون وحظر قيام الأحزاب على خلفية أو مرجعية دينية لأن فى استغلال الدين فى السياسة قضاءً مبرماً على الديمقراطية.. ولعل ما حدث فى الاستفتاء على التعديلات الدستورية يكون فيه درس وعبرة كافيان لمن يهمه إلا يسلم هذا البلد الآمن على طبق من ذهب لتيارات ظلامية تريد العودة بنا إلى عصر الجاهلية الأولى.. وإذا كنا متفقين على أن الثورة وأحداثها قد أجهدت وأنهكت جسد مصر وجعلتها "بعافية" فمَن غير الأطباء الثلاثة قادر على أن يأخذ بيدها حتى تستعيد عافيتها وتنطلق على طريق التقدم والرخاء!





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة