ظلت قيمة الأرض عند الفلاح تساوى تماما قيمة العرض والشرف، وعلى مر الزمن وضع أمام عينيه المثل الشهير "إللى يفرط فى أرضه زى إلى يفرط فى عرضه"، وكان من يفرط منهم فى حبة من ترابها يوصم بالعار، ويوضع على ظهر الحمار بالمقلوب، ويجرس ويزف بالشوارع ويهتف الجميع من خلفه "عواد باع أرضه على طوله وعرضه"، وظهرت هذه الصورة فى الأعمال الدرامية كثيرا.
واليوم وبعد أن كثر عدد أبناء وأشباه عواد الذين فرطوا فى أرضهم، وهان عليهم عرضهم، فباعوها أو بوروها وشقوا قلبها، ووضعوا فيه الخراسانات المسلحة، ومنعوا عنها الحب والماء، فضاقت شرايينها، وتقطعت أوردتها، وتخلت عن لونها الأخضر، وما عاد وجهها ينبض بالحياة.
والكل يريد أن يحاسب عواد على جريمته الشنعاء، وفعلته النكراء، ولكنى أؤكد لكم أن عواد "ما بعش أرضه ولا فرط فى عرضه"، ولكننا نحن الذين وضعناه فى سلة المهملات، وتركناه نهبا للطامعين والمرابين، وتحت سطوة المرتشين والفاسدين، فعواد ومنذ سنين طوال لم يدب نبض السعادة فى قلبه، ولم يعرف الفرح طريقه، واختفت البسمة من حياته، وكانت آخر لحظة جميلة شعر بها يوم تسلم أرض الإصلاح فى الستينات، وما زالت صورة تسلم عقودها من عبد الناصر باقية فى الأذهان، يتحاكى بها مثل حواديت الشاطر حسن وست الحسن والجمال، ولكنها فرحة ما تمت خدها الغراب وطار وزفتها الحدادى والغربان.
فالفلاح ذالك الصامت الصامد كشجر الكافور، تهزه الريح فيشتد عوده، ويضرب جذوره فى الأرض التى تعلم منها الصبر والجلد، بعدما صار منها وصارت منه، فقد رواها بعرقه تارة، وبدمه تارة أخرى، وأحرقت شمس الصيف وجهه وقفاه، وشقق الماء والطين والهواء كفيه وقدميه، ولطمته الأيام بالجوع والفقر والمرض، ولم يعرف من الفاكهة إلا أسماءها، ومن السكن إلا المعروش بالخوص والبوص والحطب، ومن الملبس إلا البفت والدمور وصوف الغنم، ومن الحذاء إلا البلاستيك، ولكنه مع ذلك عرف جميع الأمراض، فنالت منه وانتقصت من عمره، فكابدها حتى سقط من بيننا، صريعا دون أن تدمع عليه عيوننا.
ووسط كل تلك الأهوال عاش صابراً مثابراً حتى علم أبناؤه، فكان منهم الطبيب والمهندس والمحامى والمعلم، وانتظر يوما يردون فيه الجميل، وينتشلونه من فقره، ويقضون على عجزه أمام الحوادث والأيام، ولكن الذين حرم نفسه القوت والكساء من أجلهم، وعاش حافياً دون حذاء، كى يلبسوا ويطعموا ويتعلموا، كانوا هم أول من أنكر جميله، ونسى معروفه، وتنكر لحقوقه عليه، فتركوه وحيدا فى صراعه دون معين، يلهث خلف أمل كاذب، وحلم فى منام لن يتحقق.
ولم يطمئن نفسه أو يهدأ من روعه، إلا فرحة ظل ينتظرها بمحصول آخر العام، ولكننا لم نترك له حتى هذه الفرحة، فحرمناه منها وإلى الأبد، فجلبنا له بذورا لا تثمر، وفرضنا عليه أسمدة تقتل الزرع والحرث، ومبيدات مسرطنة أورثته وأرضه الوباء والمرض، وأصبح يحصد بدلا من الذهب الأبيض دودا أخضر، وبدلا من سنابل القمح والذرة حبوبا نخرها السوس والدود، وأكلت ثماره حشرات لم يرها ولم يسمع عنها من قبل، وأصبحت أرضه عاجزة موبوءة مريضة، يشقها بالفأس فتأبى أن تستجيب، ويرويها بالماء فتعصى عليه.
وها هو لا يجد حتى ماء النيل الذى كان يشرب منه، ويستحم فيه، ويغسل ملابسه، ويسقى حيواناته، ويروى أرضه التى لا يجد لريها اليوم إلا مياه المجارى، فحزن عليها وأصابه ما أصابها، من مرض وعطب، فخمل كبده، وضاق صدره، وتوقفت كليتاه، وزاد ضغط قلبه، ولا يجد مستشفى يعالجه، ويوم أن يذهب لطبيب من أبنائه يقسو عليه، فيسلبه ماله دون أن يعالجه.
ومع كل هذا فهو صابر لا يتبرم، ساكن لا يعلن العصيان، وما قام يوما بمظاهرة فئوية، ولم يطالب بمطالب شخصية، وكلنا نحاسبه على البناء فى الأرض الزراعية، رغم أنه لم يحلم يوما بالقصر، أو الفيلا والعمارة، ولكن الذى بنى هم أبناؤه الذين علمهم وتنكروا له، واستعروا من جهله، وعجزه ومرضه وفقره، ويمتلكون المال والقرار، فحاسبوهم هم، وحاسبوا أنفسكم، لأنكم قصرتم فى حق عواد الذى لم يبيع أرضه، ولم يفرط فيها، إلا بعدما فرطنا نحن فيه.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة