شعرت بحزن عميق وأنا أقرأ المقال الذى كتبته الكاتبة المميزة فاطمة ناعوت عن قصة تعذيب ضابط شرطة على أيدى البلطجية، إلا أن ما كان أشد إيلاماً هو بعض التعليقات التى وضعها بعض السادة القراء على المقال..
هذا الضابط هو العقيد/ أيمن عبد العظيم مطر، تم الهجوم عليه فى مكتبه والاعتداء عليه بالضرب وبشكل وحشى والتمثيل به إلى درجة محاولة فتح عينيه لخزقها بمسمار لولا أن المهاجمين ظنوا أنه مات.
لقد علق البعض على المقال المذكور شامتين فى الضابط وكل ضباط الشرطة، بل وبشكل يكشف عن تلذذهم بهذا الهجوم الوحشى.
قرأنا قبل ذلك عن قيام مجموعة بقتل رئيسهم فى العمل أثناء تواجده فى مكتبه، واعتداءات متفرقة بطول وعرض البلاد، وأعمال بلطجة وخروج على القانون بلا رادع.. حالة من الفوضى غير مسبوقة.
مع ذلك وجدنا بعض "الثوار" أو المتحدثين باسمهم يفسرون ذلك بأنه عملية "اجتثاث" للنظام القديم، وانتقام مشروع لمظالم استمرت عبر عقود، وأن المسألة لن تستغرق وقتاً، حيث إن تلك هى طبيعة الثورات.
إننى أعرف هذا الضابط الضحية، بل إنه كان بمثابة ابنى، مثال للشرف والرجولة والتدين، شاهدته وهو طفل يكبر، وعرفته وهو يحسن للفقراء ويسارع لنجدة المحتاج.. قلبى معه ومع أسرته الصغيرة.
ممكن أن نتفهم الغضب.. ولكن الكراهية أمر ممقوت يتناقض مع الفطرة الإنسانية السوية، بل وأراه مخالفاً للطبيعة المصرية السمحة.. لا أتصور مجتمعاً يمكنه إعادة البناء إلا بالحب والتسامح، ولذا أدعو إلى الغفران مع عدم النسيان.. الغفران لأن غريزة الانتقام كالنار التى تحرق حاملها، وعدم النسيان حتى لا تتكرر أخطاء الماضى.. المطلوب هو العدالة إذن وليس الحقد أو الانتقام.. لا يمكن أن يصلح مجتمع يأخذ فيه الناس ما يظنون أنها حقوقهم بأيديهم، وربما قطار العدل بطىء، لكنه يصل إلى المحطة التى ننشدها.. غير ذلك يؤدى إلى تيه وضياع نسأل الله أن يعفينا منه.
المسألة شديدة الخطورة، لابد من فرض هيبة الدولة وسيادة القانون وإلا فهى الفوضى وقانون الغاب وذلك لا يليق بمصر ولا يستحقه أهلها الطيبون، لأن التضحية بسيادة القانون لمجرد الانتقام هى بداية الفوضى التى ستعصف بكل ما تحقق.. كما أنه لو كان التسامح فضيلة، فإنه يصبح الآن ضرورة من أجل البناء.
ما حدث ويحدث يؤكد ضرورة المسارعة بفرض سيادة القانون، واستعادة هيبة الدولة التى تختلف عن هيبة النظام السياسى أياً ما كان (رجاء مراجعة مقالى فى "اليوم السابع" قبل الثورة عن مسألة هيبة الدولة).. ويؤكد مرة أخرى أن الثورة لا تزال فى مرحلة المخاض.. الأم لا تزال تتألم، والجنين المعجزة فى قرار مكين.. مسئوليتنا جميعاً أن نحمى "الميلاد" الحقيقى.
وفى نفس الوقت أرفض الرأى القائل بأن هذه العناصر كافية لوصم الثورة بأنها مؤامرة، ما يمكن تصوره وحتى تتضح الصورة هو أن هناك من ركب الموجة.. وهذا يحدث فى هبات الشعوب للأسف، خاصة إذا اقتصر دور النخب على صراع الديوك واستعراض الملكات النظرية.. ولا زلت أتمنى أن تتخلص روح الثورة النقية مما شابها من أدران.
ومن ناحية أخرى، فإنه فى مناخ الحرية المسئولة، سيادة القانون تعنى تحديد ما الذى ينبغى ألا نفعله، وأن يباح ما وراء ذلك أى أنه ليس من مسئولية أى حكومة أن تحدد لنا ما نفعله، لذا فإن التوافق الدستورى المجتمعى فيما يتعلق بالحريات العامة يبحث فقط فيما يمكن أن يتم التوافق على اعتباره سلوكاً غير قانونى.
لذلك أتصور أن أمام شبابنا ثلاث مهام متوازية وبالأولوية التالية: إصلاح قانونى، إصلاح اقتصادى، إصلاح سياسى، وفى نفس الوقت أرجو أن تترك المؤسسات الدينية مشاكل المواطنين لمؤسساتهم المدنية.. لقد تخلص الناس من وصاية الأب الرئيس، وحان الوقت أن يتحرروا من وصاية الأب الروحى.. المواطن مخلوق مدنى أيضاً.
باختصار.. المطالبة بالحقوق حق، والإصرار عليها حوار، والتصلب حولها جمود، والقبول برأى الآخر واجب يقتضى مراجعة المطالب، ورأيك خطأ يحتمل الصواب، ورأيى صواب يحتمل الخطأ.. إن من يخالفك فى الرأى، يسدى إليك خدمة بإضافة زاوية أخرى إلى رأيك.. فعينان ترى أفضل من عين، وعقلان يفكران أفضل من عقل واحد.. أو هكذا أظن.
إن من اعتدوا على الضابط الشهم العقيد/ أيمن عبد العظيم مطر ليسوا فقط تلك الحفنة الضالة التى قامت بالاعتداء عليه، وإنما كل من لوث نبع مصر الطاهر بمشاعر الكراهية والانتقام.. وأخشى أنه يجب علينا أن نتنبه قبل أن نكتشف أننا نزعنا "فرعون" واحدا كى نزرع بدلاً منها آلاف "الفراعين"، ولينظر كل منا فى المرآة، فمن كان بلا خطيئة فليقذف بحجر.. اللهم بلغت، اللهم فاشهد..