فى الصباح التالى لجمعة الغضب 28 يناير جمعت أولادى لإبلاغهم بالتحديات الجديدة الطارئة على حياتنا، كنت أدرك جيدا أن النظام سقط مساء الجمعة، وحتى لو ظل مبارك محتفظا بالحكم، فهو فقد الجهاز الأمنى الذى يستند إليه، وبالتالى فنحن نقبل على مرحلة يحكمها الشارع، ويملى فيها إرادته صاحب الصوت الأعلى والقادر أكثر على النفاذ إلى وسائل الإعلام.
بالنسبة لى شخصيا، أعرف جيدا أن الصحفى سلعة معروضة فى السوق تخضع لقوانين العرض والطلب، وبالتالى فإن الطلب سيكون كبيرا وملحا فى مختلف وسائل الإعلام على القادرين على العمل بمنطق صحافة التابلويد الفاضئحية، وفى مثل هذه الظروف يريد الناس قراءة الكثير من الأسرار وحكايات البيوت والنفوذ والسلطة، حتى ولو لم يكن لها أقدام.
وفى حالات السيولة التى تشمل الإعلام لن يكون مطلوبا أو مقبولا من وسائل الإعلام السماع للعقل والمنطق والاحتكام لأصول المهنة، والالتزام بقواعد القانون، التى تنص على أن أى متهم برىء حتى تثبت إدانته.
أما إذا كنت تملك خيالا وتستطيع ابتداع حكايات ونسجها فى قصص مؤثرة عن علاقات غرامية اخترعتها من خيالك لمسئول ما، أو تملك القدرة على كتابة تفاصيل ليالى المسئولين السابقين فى السجون اعتمادا على ما شاهدته من قبل فى السينما والمسلسلات وغيرها فأهلا بك سلعة مطلوبة إعلاميا يدفع لها أصحاب الإعلام مالا وفيرا.
لا مطالب فئوية اعتبارا من الآن.. هكذا صدرت تعليماتى واضحة لأولادى.
تساءلوا ماذا تعنى بالمطالب الفئوية؟
فقلت: يعنى ملابس جديدة، الذهاب إلى السينما، أو النادى، الخروج مع الأصدقاء، ليس لدينا ما يكفى للغذاء والتعليم.. وهذا ما سأنفق عليه فقط خلال المرحلة المقبلة إن استطعت.
الكبير فى الثانوية العامة، ويتلقى دروسا خصوصية يومية.. قلت له يمكننا تأجيل بعض الدروس أو تقليل عددها، ثم لا داعى للذهاب والعودة من الدرس فى تاكسى.. يجب أن تجربوا المواصلات العامة: أتوبيس ومترو ويمكن ميكروباص.
فى اليوم التالى عاد ابنى الأوسط بالشهادة الإعدادية من المدرسة متأخرا عن موعده، واكتشفت أنه بدأ بمنع المطالب الفئوية بنفسه بالعودة سيرا على الأقدام من مدرسته فى الزمالك إلى المنيل.. كان التصرف قاسيا على جدا أفهمته أننا لم نصل بعد إلى هذه المرحلة.
صحيح أننى منعت المطالب الفئوية فى البيت لكننى اكتشفت أيضا أننى منعت بعض حقوق الإنسان الأساسية التى ينص عليها دستور 1971 الذى سقط أيضا، والإعلان العالمى لحقوق الإنسان، فتقليل الدروس يعنى الحرمان من الحق فى التعليم.. خاصة أن تعليمنا، من قبل ومن بعد، لا يتوافر مع المعايير الدولية للتعليم.. وبالتالى أيضا منعت الحق فى الملبس.
لست وحدى من منع المطالب الفئوية فى بيته، فمعظم المصريين يعيشون الآن على الحد الأدنى أو أقل، وهم يراجعون ميزانية أسرهم عدة مرات فى الشهر.
سألنى ابنى الكبير: متى ستعود الحياة كما كانت؟
قلت دون تردد: الأسوأ لم يأت بعد.