بين واقعية الحدث ورهبة الاعتراف به، تتأرجح الحيرة فيما يخص محاكمة الرئيس السابق محمد حسنى مبارك، لم يكن من الممكن مجرد التخيل أن يأتى اليوم الذى يحاسب فيه الرئيس على كم الخطايا التى ارتكبها فى حق شعبه، كان الغضب واليأس هما المسيطران دوما على حواس وعقول الناس، ليصلوا فى النهاية الى قناعة سهلة ومريحة، أنهم مغلوبون على أمرهم، لا حول لهم ولا قوة، فينكفئون على همومهم، ويتناسوا فجيعتهم الكبرى من ظلم وقهر يومى، وفقر نهش عظامهم، وبطالة قضت على أحلامهم، وفساد زكم أنوفهم، وغلاء امتص دمائهم، وإحباط تغلغل فى خلايا أجسادهم، فأحالها إلى بالونات اختبار لكل موجة خراب تتعرض لها البلاد، ولا يحرك لها الشعب ساكنا، فاطمأن المارد وأيقن أن الشعب لن يفيق من غفوته الطويلة، مهما مرت عليه من نوائب، لأنه شعب مسالم خانع، يتلذذ فى عبوديته منذ عصر الفراعنة.
لست هنا بصدد تفنيد ما أصبح محفورا فى عقول وقلوب الناس، ولا حتى الشماتة فيما آل عليه حال الرئيس وعائلته، ولكنها لحظة لايمكن إغفال حقيقة الإحساس بالأسى من الوصول إليها، اختلطت فيها المشاعر الانسانية بالغضب، ولم يعد لدى القدرة على الفصل بين ما يتعلق باحساسى الانسانى الصرف، الذى لا يستوعب حتى الآن فكرة أن يتحول هذا العملاق الذى تجبر بكل ما أحيط به من مال وجاه وسلطة ونفوذ، إلى شخص عادى لايملك حتى القدرة على الدفاع عن نفسه.
قال تعالى: "قل اللهم مالك الملك، تؤتى الملك من تشاء، وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء، وتذل من تشاء، بيدك الخير، إنك على كل شىء قدير " (من سورة آل عمران الآية 26 ).
كنت من أشد المتشائمين مما يحدث فى البلاد، من انهيارات مفزعة فى كافة المجالات، الصحة والتعليم، وانتشار الرشاوى، وارتفاع معدل الجريمة، وتزايد موجات الغلاء بلا مبرر مع تدنى مستوى المعيشة، الانهيار الأخلاقى فى الشارع المصرى، وتراجع القيم الأصيلة، ليتسلل مكانها السلبية واللامبالاة فى كل شىء، حتى غابت النخوة عن سلوكنا، وأصبحنا نرى الكارثة ولا نلقى لها بالا.
كان السؤال الذى يتررد على لسانى دوما وبلا قيمة، متى يثور هذا الشعب، ويشعر بأنه لا يرقى إلى مصاف البشر فى التعامل الإنسانى والحياة التى يعيشها، مقارنة بدول كثيرة أقل قدرة وإمكانيات مما تتمتع به مصر؟!
حتى جاءت اللحظة التى لم يتخيلها أحد، ولم يتصور صانعيها أنها قد تصل إلى محاكمة الرئيس، فقد كان ذلك حلما لايمكن حتى التصريح به، لكن هذه اللحظة عصيبة ومؤلمة، فنحن شعوب عاطفية بطبعها، لانستطيع الفصل بين الحقوق والواجبات.
أتساءل بمشاعر محفوفة بالتناقض والخوف، إلى أين يتجه مصير مبارك؟ وأعرف أنه تساؤل ساذج، لكنها المشاعر الإنسانية التى تتغلب على المنطق والعقل، الرئيس السابق أخطأ كثيرا، لا أحد يشكك فى ذلك ودم الشهداء لم يجف بعد، ودموع الثكالى لا زالت تتألق فى المآقى، لكن الرحمة والتسامح من شيم الأقوياء والكرماء، فهل يستحقها؟ وإن كان لا يستحقها هل نملك حق العفو عند المقدرة، احتراما لنقطة بيضاء سجلها له التاريخ فى حرب أكتوبر المجيدة.
أخطأ مبارك وكانت أخطاؤه فادحة، لكننا شاركنا فى هذه الأخطاء بالسكوت عليه، وتمجيده، وصبرنا على فساده وفساد من حوله حتى فتنته السلطة والمال، وتضخمت الأنا إلى الحد الذى لا تراجع فيه، والآن بلغ من العمر أرذله، فهل يشفع له هذا العمر ما ارتكبه من آثام ؟ وهل يكون التسامح وروح القانون هو الحكم على ما تبقى له من عمر؟