فى مصر قبل يوليو 1952 وحتى سنوات خلت، كان لدينا نخبة مميزة فى كافة المجالات، لا تقود مصر إلى التقدم فقط، وإنما تصنع النهضة فى العالم العربى والإسلامى: فلاسفة وأدباء، علماء وفنانون، صحفيون ومفكرون، ورجال دين مستنيرون، لذلك أعيد صياغة الإسلام السياسى فى مصر على يد الشيخ حسن البنا ليصبح حالة عالمية، اتفقنا أو اختلفنا معها، وتلقف جمال عبد الناصر القومية العربية من ميشيل عفلق ليجعلها حالة عربية، اتفقنا أيضا أو اختلفنا معها.
لكن منذ سنوات توقفت النخبة المصرية عن الإبداع والمنافسة فى مجال الأفكار، ولأن كل المشروعات العظيمة التى أدت إلى نهضة البشرية كانت فى الأساس فكرة، فقد انتقلت مصر من حالة الفوران المعرفى، إلى حالة الركود، ودخلت فى مرحلة الكلام المكرر المعاد.
قبل 25 يناير بعدة أشهر كتبت فى "الأهرام المسائى" أن أزمة مصر الحقيقية ليست فى حكامها، وإنما فى نخبتها المختلفة، حتى النخبة الحاكمة الجديدة التى قادها جمال مبارك داخل أمانة سياسات الحزب الوطنى، لم تكن قادرة على إنتاج أفكار مميزة، وإذا فعلتها فإنها سرعان ما تتخلى عنها فى التطبيق.
وفى الغالب تحول معظم المثقفين المصريين إلى بناء ثقافتهم اعتماداً على السمع فقط، أى ما يصل إلى آذانهم عبر الفضائيات والندوات، وغيرها من الملتقيات الكلامية، وأعتقد جازماً أن نجاح الشعب المصرى فى إسقاط النظام فى الثامن والعشرين من يناير جاء بتحرك شعبى عفوى ليس له علاقة بالنخبة، لأنه لو استسلم لها فى البدايات ما نجح فى إسقاط النظام، وإجبار الرئيس على التخلى السلطة.
وبدلا من أن تعى النخبة درس 28 يناير، وتعرف أن حركة الشارع سبقت حركتها، عادت بعد الانتصار الشعبى لمحاولة سرقة ما تحقق من إنجازات، وبنفس الطريقة، أصبحنا تقريبا نعيش داخل قفص من البغبغانات، ويكفى أن تدير مؤشر التليفزيون بين القنوات المصرية المختلفة، لتجد وجوهاً متعددة تردد نفس الكلام، ربما دون إدراك لمعناه، ودون أدنى قدرة على التحاور بشأنه.
أمس كنت مع الدكتور مأمون فندى ووصف الجلسة الأولى من الحوار الوطنى الفاشل الذى رعاه نائب رئيس الوزراء يحيى الجمل بأنه حوار لنخبة نادى العاصمة فقط، نخبة لا تعرف مصر الحقيقية وتعيش فى انفصال عنها.. وهذا حقيقى إلى حد كبير.. فالنخبة التى قفزت على أكتاف الشعب فى ميدان التحرير، لم تدرك أن المزاج الشعبى تغير كثيراً.
فالمواطنون فى بلدنا فى دلتا مصر غير مهتمين بالقبض على الرئيس السابق أو محاكمته، ولا يريدون كما قال لنا سائق التاكسى أمس النظر فى مرآة لا يرى منها سوى الخلف.. الشعب يريد النظر والمضى قدما للإمام.. وليس معنى هذا أن تكون النخبة لسان حال الشعب، لأنها يجب أن تسبق دائما بخطوة أو خطوتين على الأقل.. لكن المشكلة الكبيرة جدا، أن النخبة تسير فى اتجاه.. والشعب فى اتجاه آخر.. وحتى اللحظة التاريخية للقاء بين الاثنين فى شوارع الثورة، أضاعها النخبويون الذين يصرون على الحديث من كتب التاريخ، ويرددون جميعاً نفس الكلام.. بنفس الطريقة!