فى ديسمبر1993م كتب الله لى أن أسافر إلى ليبيا للعمل، والهدف طبعا معروف، تحسين الدخل، ونظرا للحصار الجوى المفروض عليها بسبب قضية لوكيربى، سافرت بالطريق البرى فى سيارة بيجو أجرة من المنصورة إلى طرابلس، فى رحلة ثلاثة أيام بالطريق قطعنا فيها حوالى ثلاثة آلاف كيلو متر، من المنصورة إلى جادو بالجبل الغربى، وقضيت فى مدينة جادو سبع سنوات تقريبا قبل العودة فى ديسمبر 2000م، وبفضل من الله اندمجنا بسرعة كبيرة فى المجتمع البدوى، الأمازيغى فى الجبل الغربى، وعرفنا الكثير عن جغرافيا وسكان ليبيا، والوضع الاجتماعى والسياسى للدولة الليبية.
الدولة مساحتها كبيرة سواحلها على المتوسط حوالى 2000 كيلومتر، من مساعد على الحدود المصرية إلى رأس جدير على الحدود التونسية، وصحرائها تمتد إلى عمق حوالى 1000 كيلومتر جنوبا، قرى ومدن الجماهيرية تقريبا متشابهة من ناحية المعمار، بيوت الليبيين لا تزيد عن طابقين وكل منزل يسمونه حوش، له سور وحديقة أمامية، وأخرى خلفية ما عدا المبانى الحكومية كالمدارس والمستشفيات، ومساكن المغتربين متعددة الأدوار وحديثة الطراز، وكل قرية أو مدينة سكانها من قبيلة واحدة أو قبيلتين على الأكثر، وبها كل الخدمات الخاصة بها مدارس ومستشفيات أو مستوصفات وفروع للبنوك ومحطة للوقود بنزين وكيروسين وديزل وزيوت وأنابيب الغاز وأيضا سوق تجارى به جميع أنواع البضائع تقريبا، ولكل مائة عائلة جمعية للمواد التموينية، وتوزع فيها الأجهزة الكهربائية والملابس والأدوات المدرسية التى تسمى القرطاسية، وكل شىء يلزم الحياة متوفر وبأسعار بسيطة على سبيل المثال شيكارة السكر 50 كيلوجرام بستة دينارات، وشوال الدقيق الفينو 100كيلوجرام بدينارين ونصف، وكيس المكرونة 25 كيلوجرام بخمسة دينارات، بمعنى أن أسعار المعيشة رخيصة جدا، تقريبا كل رجل فى ليبيا يمتلك أكثر من سيارة أمام منزله، وكل قرية بها تقريبا ضعف عدد سكانها من العمالة الأجنبية التى تعمل فى كل المجالات، شبكة الطرق عالية المستوى والأمان متوفر ليلا ونهارا، على هذه الطرق، شهادة لوجه الله الشعب الليبى أصيل ومتدين، وبصفة خاصة يحبون المصريين جدا، ولم نعانِ من أى مشكلة طوال فترة الاغتراب.
معاناة الشعب الليبى كانت بصفة أساسية معاناة سياسية، الحكم والسيطرة للقذافى ورجال القذافى، هم: رجال اللجان الثورية، ولا يخلو مكان من عناصر اللجان الثورية، وبشكل علنى يوجد إعلانات ضخمة مكتوب عليها اللجان فى كل مكان، أعضاء اللجان الثورية مسلحون، وكلهم يعانون من مرض واحد يقولون أنهم مريضون بالثورية، وحب القائد أمين القومية العربية.
يسجلون عليك كل همساتك ويعدون أنفاسك ويقرأون رسائلك البريدية، ويتنصتون على مكالماتك التليفونية، وياويلك وظلام ليلك لو أظهرت عدم احترام وتعاطف مع مبادىء الكتاب الأخضر، أولا: تصبح من المنبوذين، ويضيقون على هؤلاء الأشخاص فى كل مكان فى تعليم أولاده وفى علاجهم، وأحيانا يصل الأمر إلى الحصار، ومنع المواد الأساسية، وإذا لم تنتبه، وتفهم يصل الأمر إلى حد التصفية الجسدية، وإذا لزم الأمر العقاب الجماعى لقبيلتك، وأحيانا ولا تستغرب القصف بالطائرات، بحجة إجراء مناورات عسكرية بالذخيرة الحية، وطبعا المناورات العسكرية لها ضحايا.
فى إحدى محاولات الاغتيال التى تعرض لها القذافى وكسرت فيها فخذه أعلن فى التلفزيون عن مناورات بالطائرات على الجبل الأخضر فى المنطقة الشرقية، وفعلا قامت الطائرات بقصف الكثير من المنازل والقرى، وأحيان كثيرة يتم ضرب المعارضين بالسلاح فى عرض الطريق، ويأمرون أقاربهم بدفنهم، بدون توقيع كشف طبى أو شهادة وفاة.
ناهيك عن حالات التعذيب الرهيبة التى كنا نعالجهم، وهم تحت التحفظ لمدة شهور، بدون محاكمة أو تحقيق، أحيانا تبقى الجثث مجهولة الهوية بالمستشفى عدة شهور، ويخاف أهاليهم من التقدم لاستلامها مع أنهم أولادهم ويمكنك أن تشم رائحتهم من بعيد قبل وصولك إلى المستشفى.
أسوأ أنواع القمع والاستبداد السياسى، والخبث الرهيب فى معاملة المعارضين الذين لا مفر أمامهم إلا ترك البلاد، واتبرأ منهم لتفادى غضب النظام عليهم، فى السياسة أعضاء اللجان الثورية لا يرحمون حتى أبناء قبيلتهم ورأيت بأم عينى أن الأخ لا يثق فى أخيه بل يخاف منه، يشهد الله استبداد وطغيان وفساد وإجرام اللجان الثورية لم أرى مثله أو أقرا عنه فى حياتى.
لما انتفض الشعب الليبى كلنا سمعنا القذافى، وقد سمى الشباب بالجرذان والجراثيم، وسبق وسماهم الكلاب الضالة، فى انتفاضات أخرى، وعلل سبب انتفاضتهم بحبوب الهلوسة والمخدرات ودشن أكبر حملة لمقاومة الجرذان، فى كل مكان، وهدد بتطهير البلاد بالحرب وبقوة السلاح، وكما قالها بيت بيت وزنجة زنجة وفرد فرد.
لقد بدا زعيم القومية العربية كما يدعى وملك ملوك أفريقيا والزعيم الوحدوى حربا شرسة، يقتل فيها شعبه الأعزل بكل أنواع الأسلحة الفتّاكة واشترى بأمواله المرتزقة من كل مكان فى أفريقيا أو أوروبا الشرقية، أو أمريكا الجنوبية.
وانتفض العالم الحر والدول العربية التى عندها شىء من نخوة لمساعدة الشعب الليبى، وشل قدرة القذافى على قتل شعبه، بفرض مناطق حظر جوى، وضرب مراكز قيادته وسيطرته، وفى نفس الوقت تخلى عنه جزء كبير من أعوانه، ووزرائه ومساعديه الشرفاء، ولم يتبقَ له إلا أبناؤه والمرتزقة.
اكتب هذه الشهادة ومازال الشعب الليبى يتعرض لأبشع أنواع القتل والفتك والتجويع والحصار، أكتب هذه الشهادة، وقد بدا رجل العروبة الأول صاحب فكرة الاتحاد العربى، والاتحاد الأفريقى رجل الكذب والأنانية والإجرام والإرهاب الدولى، فى اتباع سياسة الأرض المحروقة يدمر آبار النفط، ومعامل تكرير النفط، ويهدد بتدمير النهر الصناعى، أكتب هذه الشهادة، ومازال مسلسل الاستبداد العربى يتكرر، ولكن بشكل أفظع، ولكن سقطت الأقنعة وذهبت فزاعة إما الديكتاتورية وإما الدولة الدينية والارهاب، أكتب هذه الشهادة وكلى أسف على حكام العرب الذين أظهروا بسالة فى إذلال شعوبهم ونهب ثرواتها، ومازالوا بالرغم من وضوح الرؤية بالنهاية المحتومة أما الهروب أو التنحى أو التأديب من حلف الناتو.
من هنا من هذا المنبر الحر أترحم على أرواح شهداء الثورة الشعبية الليبية، وأدعو للشعب الليبى الذى لنا فيه الكثير من الأهل والأحباب، أدعوا لهذا الشعب بسرعة الخلاص من قهر واستبداد ما يقرب من نصف قرن، من رجل الكل شهد بأنه معتوه ومجنون.
معمر القذافى
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة