د.أنور مغيث

المنظور السلفى وصياغة العقول

الأربعاء، 13 أبريل 2011 07:46 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
الواقع الاجتماعى والسياسى بحر متلاطم الأمواج، ونهر لا يكف عن التوقف، ولكى يفهمه المرء ويحسن التأثير فيه عليه، كما هو الحال فى كل علم من العلوم، أن يكون مزوداً بمجموعة من المفاهيم والإجراءات، التى تسمح بالتصنيف والإحصاء والتفسير.

هذه المفاهيم والإجراءات هى بمثابة منظومة متكاملة من زوايا الرؤية، التى تكون موجودة فى العقل قبل الحدث الخاضع للملاحظة، والتى تتشكل خلال سنوات طويلة من التعليم الثقافة المحيطة، والواقع الاجتماعى للبشر يتطور بصورة عالمية مهما امتلأت بالتفاوتات، فهناك الآن فى جميع دول العالم حكومة ودستور وانتخابات وأحزاب سياسية، وكلها أمور لم يكن لها وجود لا فى الشرق ولا فى الغرب فى العصور السالفة.

المجتمعات البشرية يحكمها ما يسمى بـ "روح العصر". ولفهم روح العصر نحتاج إلى منهج عصرى قادر على فك شفراتها.

ولكن مسحة التدين الشكلى الرائجة هذه الأيام فى تقافتنا السياسية تشكل عائقاً، يحول دون هذا الفهم لأنها تفقدنا التعامل معه بصورة عقلانية وحديثة، وهناك الكثير من الأمثلة على ذلك.

فبعد الحادث الإجرامى ضد كنيسة القديسيين فى رأس السنة، اجتاحت الجميع مشاعر صادقة من الأسى والتعاطف، وامتلأت وسائل الإعلام برجال الدين والدعاة الذين يتحدثون عن حماية الإسلام لأهل الذمة، وأن سلامتهم أمانة فى أعناقنا، مع كل التقدير لهذا الموقف المتعاطف، ولكن علينا ألا ننسى شبكة المفاهيم، التى ينظر بها إلى الحدث، فهاهم الأقباط بدلاً من أن يكونوا مواطنين أصبحوا أهل ذمة، ونحن المسلمون لسنا مواطنين متساوين معهم ولكن علينا واجب رعايتهم وحمايتهم، وحينما خرج بعض شباب الأقباط متظاهراً يطالب الدولة بالقيام بواجبها، ويستنكر بطء العدالة فى قضايا سابقة، فتحت القنوات أمام رجال الدين والدعاة ليتحدثوا عن موقف الشرع من التظاهر، وعرفنا من فضيلة الاستاذ الدكتور ضيف برنامج مصر النهاردة أن المتظاهر فى الإسلام "باغى"، أى خارج على الحاكم، وقد حرّم التظاهر أغلب الفقهاء إلا أبو حنيفة، وأن هناك حكما مختلفا فى الشرع عن غير المسلم إذا تظاهر ضد حاكم مسلم.

ولعل هذا المثال يوضح العبث الذى توقعنا فيه الفجوة بين مفاهيمنا والواقع نفسه، فحق التظاهر لم تعرفه البشرية من قبل، ولكنه فى إطار الحداثة هو أحد آليات الديمقراطية فى إدارة صراعات المصالح فى المجتمع بصورة سلمية، وبالتالى هى لا تعد خروجاً على الحاكم، بل أحياناً تسعى إليها الحكومات لتقيس من خلالها الوزن الاجتماعى للمحتجين، ومن هنا هو حق للجميع دون اعتبار للدين أو الجنس أواللون أو الأصل الثقافى.

وبقدر ما استحسنا مواقف التعاطف والتضامن، بقدر ما راعتنا مجموعة الجرائم مثل قطع الأذن، وخرق البيوت، وهدم الأضرحة، وخرج من بين الدعاة من يستنكر ذلك ويدين من قاموا به لأنهم سمحوا لأنفسهم بإقامة الحدود، فى حين أنهم كان عليهم أن يتركوا ذلك لولى الأمر، وهو ما يعنى أن هذه الجرائم عقوبات مستحقة، وأن من حق الدولة أن ترتكب هذه الجرائم ضد المواطنين.

ولا يمكن الزعم بأن هذه ثقافتنا، ولقد درجنا على النظر إلى المجال السياسى من هذا المنظور، لأن هذا ليس صحيحاً، فقد ظللنا لأكثر من قرنين من الزمان لا نستخدم مثل هذه المفاهيم الدينية، فى فهم وتحليل واقعنا السياسى، كما لا يمكن الزعم أيضا بأن هذا قد يشكل عائقاً فى وجه استلهام القيم الدينية السامية، فى إدارة المجتمع، فواقع الممارسة السياسية فى الدول الديمقراطية تنفى ذلك، ولكنها تفرض عدم استخدام هذه المصطلحات القائمة على التمييز بين المواطنين، ولكى نوضح ذلك يمكن مثلاً أن نفترض أن مجموعة من الشباب الفرنسيين من ذوى الأصول الصينية، قاموا بمظاهرة فى باريس للمطالبة بزيادة فى الأجر أو توفير مساكن، فلو وقف أحد رجال الدين المسيحى، وقال: "أنا أعلن تأييدى لمطالب الوثنيين المتظاهرين فى الحى الصيني". لا شك أن مثل هذا التصريح سوف يثير استهجان الجميع، وعلى رأسهم المتظاهرون أنفسهم، وليس ذلك لأن كلمة وثنى سبة، ولا لأنها توصيف خاطئ، ولكن لأنها استخدمت فى مجال سياسى يتعامل مع المواطنين دون تمييز.

علينا إذاً إدراك أن الدولة الحديثة قد اختفت منها تصنيفات، مثل: كافر، ومشرك، ووثنى، وزنديق، وأهل ذمة، فقد عصف بهذه التصنيفات مبدآن حديثان، وهما حرية العقيدة ومساواة الجميع أمام القانون، وكذلك تصنيفات أخرى اختفت من المجال السياسى والقانون، مثل: عاصى، وفاسق، ومرتكب الكبيرة، وقد أطاح بها مبدأ الحريات الشخصية، واكتفاء القانون بمعاقبة الفعل الذى يشكل أذى لشخص آخر.

لا يعنى ذلك أن هذه التوصيفات قد ألغيت تماماً، لقد خرجت فقط من مجال الممارسة السياسية الحديثة، وأصبح منوطاً بتحققها الأخلاق والتربية، وليس الشرطة والقانون.

إن اللغة المستخدمة فى المجال السياسى تعكس بالفعل وضع المواطنين، وحقوقهم إزاء الدولة، ومهما كانت المواقف ظاهرها التعاطف والتضامن، ولكنها تستخدم ألفاظاً تقوم أساساً على التمييز والاستبداد، نرجو أن تتخلص لغتنا السياسية من مسحة التدين الشكلى، التى أنتجت فى ظل أنظمة الحكم الدينية الاستبدادية فى الغرب والشرق، لنتعامل مع واقعنا المعاصر بلغة عقلانية حديثة.

• أستاذ الفلسفة السياسية – جامعة حلوان.








مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة