أعرف أن مقدمات الكتب مزعجة، نستخدم فيها اليقين الكامل ونحن نحاول إقناعك بأنك ستقرأ كتابا محصلش، ويظل كل كاتب فينا يحكى لك عن مميزات سطور كتابه، وكيف سهر الليالى حتى يصبح بين يديك، ولا تستبعد أن يبالغ أحدهم ويخبرك بأنه كتب الكتاب لك أنت خصيصا..
هل يمكن أن تتوقف لحظة لتكتشف كم مرة خدعك هؤلاء المؤلفون بتلك المقدمات الغرقانة فى مديحك أيها القارئ الذى يدفع من جيبه حتى تتقدم كتبهم فى قوائم الأكثر مبيعا؟
آسف يا عزيزى.. أنا لم أكن أنوى تذكيرك بذلك، ولكن أنا فقط أحاول أن أخبرك بألا تخشى السقوط فى هذا الفخ، فهذه ليست مقدمة، وربما لا يكون هذا كتابا من أصله.. أنت صاحب القرار؟!
الثورة تفرض علينا أشياء مختلفة.. أن أكتب أنا كلاما مختلفا، لكى تقرأه أنت بشكل مختلف أليس كذلك؟! ألم تغيرك الثورة وتجعلك ترى الأشياء بمنظور أكثر اختلافا مما كانت عليه الأمور من قبل؟!.. إن لم يحدث معك ذلك وكنت من هؤلاء الذين أصابهم الفزع أو الضيق من عنوان الكتاب، وتخيلت أن استخدام الخل والبصل هنا غرضه السخرية أو الفذلكة أو فيه إهانة لثورة وثوار25 يناير، دعنى وبكل أسف أقل لك بأن الحظ لن يحالفك مع هذا الكتاب، لن تفهمه ولن يفهمك، لن تحبه.. وسيبادلك هو نفس الشعور.
وحدهم فقط أبناء الثورة اللى بجد، الذين نزلوا إلى الشوارع فى 25 يناير يوم البداية و28 يناير يوم جمعة الغضب، سيفهمون لماذا استخدمت الخل والبصل فى العنوان، وسيدركون لماذا اخترت للثورة اسما يحمل كل هذه الروائح، بينما الناس فى البلدان الأخرى يطلقون على ثوراتهم أسماء الزهور؟!.
الخل والبصل ومعهم الكولا بنوعيها سواء كانت بيبسى أو كوكا كولا هم شفرة ثورة 25 يناير التى لا يفهمها سوى الذين أشعلوا نارها وخاطروا بالنزول إلى الشارع فى الأيام الأولى، بينما كان الكل ينتظر ويترقب لحظة الانتصار للقفز عليها، أو لحظة الهزيمة لإعلان شماتته وبراءته من تلك المحاولة الخائبة..
وحدهم الذين نزلوا إلى ميدان التحرير وكورنيش الإسكندرية وشوارع السويس، يفهمون أن الخل والبصل والكولا فعلا ما هو أكثر من حماية الأنوف والأجهزة التنفسية والعصبية من فيضان القنابل المسيلة للدموع التى أطلقها رجال حبيب العادلى بلا رحمة وبلا حساب، حتى أننا فى ميدان الجلاء يوم جمعة الغضب أحصينا سقوط أكثر من 200 قنبلة مسيلة للدموع فى نصف ساعة فقط، واكتشفنا أن أغلبها قنابل منتهية الصلاحية مثلها مثل النظام الذى قرر أن يستخدمها لقمع الذين يبحثون عن الحرية والكرامة.
تعال أبدأ معك من الأول حتى تعرف لماذا ظهر الخل والبصل ومعهما الكولا فى المظاهرات، أنت تعرف أو عرفت أو شاهدت أو سمعت أو شوفت بعينك وعشت اللحظة ما الذى تفعله القنابل المسيلة للدموع فى المتظاهرين، تلك الأسطوانة فضية اللون وارد.
أمريكا تجعل من العيون جمرة من النار، وتصيب بنوع من الحرقان، كنا نتخيل أنه خاص بجهنم فقط، وتخنق الصدر وتخيل لك بأن الأنفاس الأخيرة على وشك الدخول والخروج، ولأن نظام مبارك تكفل طوال سنوات حكمه بإفساد الأجهزة التنفسية للمصريين بمصانع الأسمنت والبلاستيك والكيماويات، فكان تأثير قنابل الغاز على هذه الصدور التعبة والمريضة أقوى وأعنف وأشرس مما قد يحدث فى الحالات العادية.
ولأن سؤال المجرب أفضل من سؤال الطبيب وأرخص كمان، فقد جاءت نصائح المجربين والمتمرسين لتقول بأن استنشاق الخل والبصل يهدئ من روع حرقان الغاز ويمنح الجهاز التنفسى فرصة للنجاة من الاختناق، واستخدام الكولا هو طوق النجاة للعيون مما يسببه غاز تلك القنابل من هياج ونار، ولأن العزم كان واضحا والنية كانت معقودة، ولأن الذين نزلوا إلى الشوارع يعلمون أن أجهزة الأمن لن ترحم شابا ولا شيخا ولن تفرق بين رجل أو امرأة وستسعى لأن تغلق أفواه الجميع وتخلى الشوارع لكى تعطى مبارك تمامها الشهير بأن الأمن مستتب والوضع تحت السيطرة، تسلح أغلب المتظاهرين بالخل والبصل والكمامات، وأعطت زجاجات البيبسى وكانزات الكولا المنتشر فى أيدى المتظاهرين إحساسا بأن الأمر نزهة وليس مظاهرات ستتحول فيما بعد وبفضل تلك الكانزات وروائح الخل والبصل إلى ثورة تطيح برأس نظام كنا نتخيل أنها أنشف من رأس أبو الهول.
الخل والبصل والكولا وفروا الحماية الصحية للمتظاهرين، ذلك هو الظاهر من الحديث عنهم وعن دورهم فى الأيام الأولى من ثورة 25 يناير ولكنهم صنعوا ما هو أهم.. أبقوا على تلك الثورة وحافظوا عليها.
ومرة أخرى، وحدهم الذين نزلوا إلى الشوارع فى 25 يناير وفى جمعة الغضب وأيام الثورة الأولى بشكل عام يدركون ذلك، ويشعرون بذلك الرابط الاجتماعى الذى خلقته حالة تبادل الخل والبصل والكولا بين المتظاهرين كلما أصاب أحدهم دخان القنابل المسيلة للدموع الخانق والشرير.
هذه اللهفة فى التنازل عن قطعة من البصلة أو شراء زجاجات الخل والكولا من الأكشاك، أو كمامات من الصيدلية، من أجل إسعاف مصاب أو إنقاذ مختنق أو سد عجز من جاء للمظاهرة بدون تلك الأسلحة الواقية، كشف المصريون أمام بعضهم للمرة الأولى، وفتحت مجالات للتعارف والنقاش انتهت بصداقة وبحب وزواج فى بعض الأحيان.
أعاد المصريون اكتشاف أنفسهم بحالة التضامن هذه، وشعر كل واحد وجد من يرفعه على كتفه بعد أن سقط مغميا عليه، أو وجد من يهديه زجاجة مياه أو كولا أو كمامة، بأنه ليس وحيدا فى مواجهة تلك القنابل والبنادق، شعر المصريون فجأة بأنهم قادرون على بناء ذلك البنيان المرصوص الذى يشد بعضه بعضا فلا يستطيع أى ديكتاتور هدمه.
أنا لا أبالغ إن قلت لك بأن عمليات تبادل الخل والبصل والكولا هى السبب الرئيسى فى استمرار تلك الثورة، لأن الروابط بين المتظاهرين سمحت لهم بأن يشدوا من أزر بعض، وأن يجد كل فرد فيهم مساحة لدى الآخر فى أن يؤكد عليه بضرورة النزول إلى الشارع أو البقاء فيه، وفتحت المجال لإنشاء وخلق مجموعات جديدة من الشباب أخذت على عاتقها تنظيم مسيرات فى شوارع أخرى وحث الرابضين فى منازلهم على النزول إلى الشارع والمشاركة.
أنا لا أبالغ إن قلت ذلك.. إن قلت إن الخل والبصل عرفا الغنى على الفقير، والمسلم على المسيحى، والشاب على العجوز.. عرفت مصر على بعضها..
ادخل برجلك اليمين إذن، وسمِّ الله وأنا سأدعو لك بأن تقرأ شيئا يبقى على شرارة تلك الثورة مشتعلة بداخلك، وربما نكتشف معا سر العفريت الذى كان يحكم تلك البلد..
انتظر لحظة.. أنا لم أخبرك أصلا عن العفريت، دعنى أحكى بسرعة لأن الأمر يهمك، ألست معى فى أن الجنون سكن رأسك، وأن رغبتك فى خبط تلك الرأس فى أقرب حيط حاضرة وقوية بسبب تصريحات رجال نظام مبارك السابق المستفزة والمضحكة، أليس غريبا أنه كلما يظهر أحدهم ليتحدث عن نظام مبارك وأخطائه يبرئ نفسه ويصرخ قائلا: "أنا ياما قلتلهم بس هم مسمعوش كلامى"..
فتحى سرور قال ذلك، ومصطفى الفقى قال إنه طالما نصح الرئيس بالاستجابة لمطالب الشعب، وصفوت الشريف قال مثله، وأحمد عز قال إنه ليس مسئولا، وإنه طالما نصح بتطوير الحزب، والعادلى قال فى التحقيقات إنه قال لا لضرب المتظاهرين بالرصاص، ورشيد قال من الخارج إنه دائما ما كان ينصح الرئيس بالقضاء على الفساد، ومبارك نفسه قال إنه أعطى تعليمات بنشر الحرية ورفع مستوى المواطن، لتكتشف فى نهاية تلك اللعبة أن هؤلاء الذين كبسوا على أنفاس البلد ونهبوا خيراتها ليسوا مذنبين، وأن عفريتا خفيا هو الذى كان يحكم تلك البلد، ودخل إلى قمقمه حينما صرفته الثورة وتركهم للمصير المجهول.. مش بذمتك نفسك تشكر العفريت؟!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة