فى صغرى قرأت قصة، وتذكرتها فى كبرى، لأجد أنها كانت أعمق بكثير من مجرد الإمتاع بكونها قصة تداعب خيال الأطفال وتغازل أحلامهم، فتلك القصة أحكيها بصياغة مختلفة، حيث أن بعض التفاصيل قد ضاعت مع ما فقدته الذاكرة مع الزمن.
يُحكى أن فيلا صغيرا قد وُلِدَ بإحدى حدائق الحيوان فى دولة عربية، فقام الحارس بوضع سلسلة من حديد حول قدم الفيل الصغير، وكلما حاول الفيل أن يتقدم إلى الأمام جذبته السلسلة إلى الخلف، فهو لا يستطيع كسرها لأنه لا يزال صغيراً، مرت الأيام وكبر الفيل وأصبح أكثر ضخامة، ولكنه كلما كبر.. وسع له الحارس السلسلة حتى تتناسب مع حجم قدمه.
الأعوام تمر والفيل يكبر ويكبر والحارس يوسع له السلسلة أكثر فأكثر، والفيل يزداد إيماناً أنه لا يستطيع كسرها، فكثيرا ما كان الحارس يزرع فى نفسية الفيل أنه أضعف من القيد، وأن أفضل مكان يمكن أن يحيا فيه هو ذاك القفص الحديدى البغيض، وطالما ظل الحارس يؤكد للفيل أنه إذا ما تركه يتحرر فسيجعله عرضة للموت جوعاً أوالقنص أو القتل من أجل عاجه الثمين، وأنه ــ أى الحارس ــ أفضل حارس مؤتمن عليه، فترسخ فى عقلية الفيل أنه إما حارسه وإما الهلاك، مات الفيل وهو لا يعلم أنه بجذبة واحدة من قدمه كان يستطيع كسر هذه السلسلة اللعينة التى قيدته طوال حياته، ولكنه للأسف لم يحاول أن يفعل ذلك يوماً، ففقد حلمه وطموحه فى التحرر من القيد، مثلما فقد فرصا كثيرة بأن يكبر فى حرية و رفاهية أفضل من ظلمة القيد.
الشعوب العربية أيضا كانت مثل هذا الفيل تماما، فعلى مر عقود مضت استطاعت الأنظمة الحاكمة فى تلك الدول، أن تزرع روح اليأس بداخل شعوبها، فنمى شعور بأن عصر الثورات قد انتهت وولت من دون رجعة، وأن أى محاولة للاحتجاج أو الثورة قد يقابلها قمع وإجهاض من جانب السلطات الأمنية التى كانت تسير فى البلدان العربية فساداً وتخريباً، وكانت براثنها فى كل مكان تنشر القتل والاعتقال بلا مبررات.
وللحق يجب أن نقول كلمة، وهى أن تلك الأنظمة المستبدة قد نجحت فى توطيد شعور اليأس وقتل الأمل فى نفوس الشعوب العربية بنجاحٍ باهر، ولعلها فى ذلك تتفوق على الأنظمة الاستعمارية فى حقبة ماضية من تاريخ شعوبنا العربية، والتى لم تنجح أى منها فى إرساء نظامها على أراضى العرب، فكانت ثورات التحرير العربية نهاية لبقعة سوداء فى تاريخنا لا يقل سوادها عنما كانت تحياها بالأمس القريب كلا من مصر وتونس، ومازالت تحياها ليبيا واليمن وسوريا، وغيرها.
يقولون أن الكبت يولد الانفجار، ولعل هذا ما حدث بالضبط عندما أشعل التونسى محمد بوعزيزى النيران فى جسده، ليشعل نيران ثورة أطاحت بالنظام الحاكم فى تونس بأكمله، حينها لم يشفع لزين العابدين أن يخرج على شعبه ليؤكد أنه قد فهمهم، وفى قصة مشابهه ظل فرعون مصر رافضاً أن يستجيب لمطالب الإصلاح، وتغيير بعض رموز الحكومة الفاسدة، فقامت ثورة 25 يناير المصرية التى أجبرته على التخلى عن مقعد الرئاسة، الذى أقسم بينه وبين نفسه أن يموت عليه، فتحولت أمنيته بأن يكون رئيساً راحلاً إلى رئيس مخلوع، وأيضا لم يشفع له خروجه فى خطابات عاطفية، ذكر فى إحدها مخاطبا شعب مصر أنه يعى مطالبهم، وقريبا ستكتب الصحف عن كيفية نهاية وسقوط على صالح اليمن، ومعمر قذاف ليبيا، وبشار أسد سوريا، لقد فات آوان الإصلاح بقيادة فاسدة، وقد بات تغيير الأنظمة مطلبا أساسياً للشعوب.
لقد توهمت الأنظمة العربية بأن شعوبها هادئة لا تثور وأن سيناريوهات الثورات لا يمكن أن تحدث على أراضيها، وقد ظن كل حاكم بالأثم أن الشعوب التى تبحث عن رغيف الخبز وكوب الماء والمسكن فى عشوائيات المدن، لا يمكن أن تفقه مصطلحات ومعانى مثل: الديموقراطية والعدالة والحرية، لقد كانت صدمة للطغاة من حكام العرب، أن يجدوا الفيل الهادئ المستسلم منذ عقود يثور راغباً فى التحرر من قيده، يخرج إلى الشوارع والميادين راغباً فى التخلص من محبسه، بل ويريد محاكمة حارسه الذى أبقى عليه أسيراً للتخلف والرجعية طوال السنوات الماضية دون وجه حق، فالشعوب العربية لن تقبل ذلاً وفساداً من أحد بعد اليوم.. الشعوب تحررت.
