لم تكن فى نيتى قراءتها لولا أن أتانى بها أحد أصدقائى صدفة، وأنا لم أقرأها قبل ذلك ولكنى سمعت بها أكثر من مرة على لسان كثيرين من المتكلمين والمتكلمات فيما مضى، وما إن أمسكتها حتى أحسست بشىء من الإثارة أثناء قراءتها بوتيرة متفاوتة السرعات وهى المرة الأولى لقراءتى أحد أعمال الأديب الحكيم "توفيق الحكيم"، وكانت رواية "يوميات نائب فى الأرياف".. الرواية تدور فى الريف المصرى منذ زمن بعيد وهى تحكى يوميات أحد النواب "وكلاء النيابة" فى الريف المصرى وتفاصيل يومياتهم وتعاملهم من التحقيقات فى الجرائم التى تخص فئة الريفيين عن غيرهم من رواد (البندر) أو المدنيين.. كثيراً ما شعرت أنها مملة وأن الكاتب قد أطال فى تفاصيل لا خير فى الإطالة بها واختزال ما لا يمكن اختزاله ولكنى تابعتها حتى النهاية بعد أن بهرتنى الصفحات الأولى قبل بدء الرواية وقد كانت سردا لأعمال المؤلف بالكامل، وقد وصل عددها إلى خمس وستين عملاً ما بين مقالات ومسرحيات وحوار فلسفى ورواية وهى الأخيرة التى انتمت إليها الصفحات رهن القراءة على مدار شهر وبضعة أيام كنت أطالع الرواية باسترخاء تام، حتى وصلت إلى منتصفها وهنا وجدت نفسى أمام شىء مختلف إذ أن الكاتب انتقل بى من وصف لريف مصر المغلوب على أمره والبسيط متهاوناً فى بعض حقوقه إلى صورة أراها الآن فى مصر من تمرد على الظلم وتجمهر لرفض أى من أشكاله وأصنافه.
لقد كان يصف توفيق الحكيم حياة كثير من المصريين فى محافظاتها المختلفة وهم يعرفون ما يفعله البعض بالانتخابات كما قال المأمور فى الرواية للنائب بطلها نصاً حينما سأله عن سير الانتخابات بـ"الأصول" فرد عليه قائلاً "حانضحك على بعض؟! فيه فى الدنيا انتخابات بالأصول؟"، وفى مقطع آخر من الرواية حينما سأل بطلها النائب حضرة المأمور بطريقته فى الانتخابات رد عليه بأنه لا يتدخل فى الانتخابات ولا يضغط على أحد للإدلاء بصوته وإنما يتبع الحرية المطلقة كما قال نصاً بالرواية "دى دايماً طريقتى فى الانتخابات": الحرية المطلقة، أترك الناس تنتخب على كيفها، لغاية ما تتم عملية الانتخابات، وبعدين أقوم بكل بساطة شايل صندوق الأصوات وأرميه فى الترعة، وأروح واضع مطرحه الصندوق اللى إحنا موضبينه على مهلنا".. وهو ما كان قديماً إذ كان الفرد يذهب إلى عمله صباحاً ويشترى الجرائد يطالع أخبارها وكأنه ليس من تلك البلد لثقته التامة أن آخرين قاموا بواجبه الفعلى على خير ما يكون، وقد وصل صوته بالفعل "مبحوحاً" شبه متوفى.. كما كان بالرواية تلميح عن التأثير أيضاً على "عمد" القرى كمراكز ضغط على الفلاحين وذوى الأصوات المهمشة لتسخيرها فى خدمة مرشحى الحكومة، وهنا يرسم الكثيرون ولائهم لها على الرغم من نفورهم منها بشكل كبير، وكيف أن هناك إجراءات سهلة ويسيرة لخدمة من لا يستحقونها.. حتى وصلت إلى أواخر الرواية وهنا أعطى الأديب الرائع جملة من أروع ما كتب فى موقف بين أحد العمد والمأمور والأخير يعده بإدخاله فى (البرلمان) وكان رد العمدة أنه لا يعرف ما هو (البرلمان) من الأساس وهو ما جعل المأمور ينهره ليخرج من بعد ذلك الحديث ذليلاً كما وصفه الكاتب نصاً على لسان بطلها النائب وهو يقول "فخرج العمدة ذليلاً كأنه خادم أو مجرم، وقلت فى نفسى هذه الذلة التى يذوقها فى حضرة رجال الإدارة لن تذهب سُدى، فهو سيذيقها بعينها لأهالى القرية التى يحكمها، فإن كأس الإذلال تنتقل من يد الرئيس إلى المرؤوس فى هذا البلد حتى تصل فى نهاية الأمر إلى جوف الشعب المسكين وقد تجرعها دفعة واحدة".
إلى هنا لخص الكاتب حياة الكثيرين من المصريين فى ظل ذل وامتهان لكرامتهم بأشكال شتى سلبتهم الغالى والنفيس على مدار سنوات عديدة أكثر مما توقعت حينما نظرت إلى تاريخ الرواية وفوجئت بأنها منذ عام 1937، وكان ذلك أيضاً مفاجأة كبيرة أن هناك من رأى كثيرا مما يحدث الآن ولكن منذ أكثر من سبعين عاماً لكثيرين من المصريين ويومياتهم فى مصرنا المحروسة.
صورة الأديب الكبير توفيق الحكيم
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة