من حسن الحظ أننى خلال الثمانية عشر يوماً الأولى من الثورة، والتى انتهت بتنحى الرئيس مبارك، ساهمتُ كصحفى ومذيع فى تغطيتها على كل من "بى بى سى" والجزيرة، إلى جانب مقالاتى فى عدد من الصحف المصرية.. أى أننى تذوقت من أبرز أطباق الإعلام الناطق بالعربية خلال أقل من ثلاثة أسابيع حاسمة، تخللتها مشاركتى فى المظاهرات واعتصامى فى ميدان سيدى جابر بالإسكندرية للمطالبة برحيل النظام.
فرصة سخية من القدر، ساعد عليها انتقالى المخطط له من "بى بى سى" إلى "الجزيرة"، والذى تأخر عن موعده عدة أشهر، كى ألمس من داخل المؤسستين العريقتين طريقتهما فى نقل الثورة، واختبر أجندتهما التحريرية، وأدرس ميول الصحفيين وصناع القرار فيهما عن قرب.
المؤسستان لم يسلما من النقد والهجوم فى وسائل الإعلام المصرية، وعلق عليهما النظام فشله فى احتواء غضب الثوار، وصدق الكثيرون ذلك مع الأسف، لا سيما بالنسبة للجزيرة، التى ما زال يسود اعتقاد بأنها "تكره مصر".. روجت صحيفة الأهرام لهذا النهج فى الدعاية المضادة، الذى شمل بى بى سى، حين اتهمها أسامة سرايا، رئيس التحرير الموروث من النظام السابق، بممارسة "لعبة قذرة فى أوقات الفوران".. قال ذلك وهو يقذف بالميكروفون فى وجه مصطفى المنشاوى مراسل بى بى سى فى القاهرة..
المشهد كان عبثياً، لكن الأكثر عبثية هو أن الدور الذى كانت تلعبه الصحيفة الحكومية نفسها كان وما زال تحريضياً ومضللاً وفاسداً وهابطاً بكل المعايير الأخلاقية والمهنية.. تعالوا ننظر إلى الدور الحقيقى الذى لعبته بى بى سى فى المقابل.
فلسفة بى بى سى تقوم دائماً على استعراض وجهتى النظر المتقابلتين، وهو ما سعينا لتطبيقه منذ الأيام الأولى للثورة، لكن غياب المسئولين الحكوميين حال دون ذلك، فماذا فعلنا؟ فى إحدى الساعات الإخبارية التى شرفت بالمشاركة فى إعدادها وتقديمها على بى بى سى أتحنا المجال لشباب رفضوا المشاركة فى المظاهرات كى يعبروا عن أسبابهم فى ذلك، كما سألنا بعض الأمهات اللاتى لم يسمحن لأولادهن بالانخراط فى الثورة، فى مقابل أخريات دفعن بأولادهن للشارع كى يهتفوا بسقوط النظام.. كانت تلك إحدى حِيَلنا لضمان النزاهة فى إلقاء الضوء على زاويتى القصة.
عندما انتقلتُ للجزيرة متسلحاً بهذه المبادئ، تساءلتُ عما إذا كنت سأضطر للتخلى عنها فى لحظة ما.. وبقدر العدد الهائل من المقابلات الحية التى أجريتُها على قناة الجزيرة مباشر خلال الأسبوع السابق على تنحى مبارك، فقد مررت باختبارات مهنية صعبة كنت أقف فيها دائماً على المحك، وأنا أفرض حيادى بالقوة، متصوراً أن أحد المسئولين بالقناة سيعاتبنى، ويصر على أن أرجح كفة على أخرى.. لكن الحقيقة أننى لم أتلق تعليقاً واحداً على هذا النوع من الأداء.
ولعلى أقتبس من ملاحظاتى اليومية هذه النقاط التى قد تساعد على فهم كيفية وصول الجزيرة لهذا المنتج الصحفى، الذى بدا للبعض وكأنه يميل أكثر باتجاه الشارع، وليس النظام:
سعت الجزيرة للاتصال بمسئولين حكوميين فى مصر، لكنهم كانوا يرفضون التجاوب معها.. أغلب الظن لإثبات تهمة التحيز عليها.. وقد حاولت أنا شخصياً ترتيب موعد مع أحمد شفيق رئيس الوزراء قبل التنحى بيومين، ولم أتلق جواباً من مكتبه حتى اليوم.
تختلف الجزيرة عن بى بى سى فى أسلوب تواصلها عبر الهاتف مع المشاهدين، فهى تتلقى اتصالاتهم مباشرة، بينما تدعو بى بى سى أفراد جمهورها لإرسال أرقام هواتفهم لمعاودة الاتصال بهم.. هذه الكيفية تجعل من الصعب على كثير من المتصلين بالجزيرة البقاء على الخط فى انتظار دورهم على الهواء، وهو ما يجعل أكثر الاتصالات تأتى من السعودية مثلاً، حيث تنخفض فيها كلفة المكالمات الدولية.. لكن ذلك لا يعنى أن الجزيرة تحرض السعوديين على نظامهم، أو على أى نظام آخر.
لم تتوان الجزيرة فى تنحية إحدى المذيعات عن الشاشة خلال ما تبقى من نوبة عملها، عندما لاحظت تغيراً فى ملامح وجهها، انفعالاً بأحداث الثورة، وحزناً على شهدائها.
همس فى أذنى المخرج، لتنبيهى إلى تجنب التركيز على النزاع بين السنة والشيعة فى البحرين، مع نشوب الاحتجاجات هناك، تأثراً بالثورة المصرية.. وهو عكس ما يروج له البعض من أن الجزيرة تحث على هذا النزاع وتؤججه.
وللحديث بقية...
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة