معصوم مرزوق

لسانك حصانك!

الجمعة، 04 مارس 2011 08:01 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
فى بلاد كثيرة من الدنيا، يدرك المسئولون حكمة: (إذا كان الكلام من فضة، فإن السكوت من ذهب).. إلا أن بلادا أخرى كثيرة يأخذ مسئولوها بحكمة رواد سوق الثلاثاء: (خذوهم بالصوت حتى لا يغلبوكم)!.

قد لا يبدو الفارق بين الحكمتين مثيرا لانتباه أحد، أو قد يراه البعض مقارنة لا محل لها فى المقال، إلا أن ذلك ليس كذلك..
الحصافة ـ بلاشك ـ تقتضى الاستخدام البليغ لمفردات الكلام، والبلاغة فى أحد معانيها تعنى باختصار: (ما قل ودل)، وفى تراثنا الدينى من المعلوم أنه: (لا يكب الناس على وجوههم يوم القيامة إلا حصائد ألسنتهم)، وفى تراثنا الشعبى مثل جميل يقول: (لسانك حصانك، إن صنته صانك).. وربما يعنى وصف اللسان بالحصان أن طبيعته الاندفاع والتهور، ويحتاج لقائد ماهر مدرب كى يكبح جماحه ويروضه.

كل ذلك كلام جميل ومفهوم، ولكن لم يمنع أحدا من اطلاق لسانه كألف حصان جامح فى المفيد وغير المفيد، كما أن أحدا لم يبد اهتماما باقتناء (الذهب) الذى هو حصيلة (الصمت)، وتكالب الجميع على (الكلام) الذى هو من معدن أقل.. وفى النهاية يسألك الحاذق الفاهم وهو يصوب سبابته الى مخه: (هو يعنى كان الكلام بفلوس..؟؟) .

فإذا كان ذلك كذلك، وهو كذلك!، فإن القانون الدولى يرى غير ذلك..! فالكلام ليس بفلوس فقط، وإنما فى أحوال كثيرة يساوى ما هو أكثر من الفلوس، مثل وجود أمة أو سيادتها.. وقبل أن ينزعج القارئ ويصاب بالسكتة الكلامية ـ لا قدر الله ـ فإن الكلام المقصود فى القانون الدولى ليس أى كلام لأى مخلوق، وإنما كلام المسئولين الذى يفترض أنه كلام مسئول.

ففى نزاع ما بين النرويج والدنمارك بخصوص منطقة جرين لاند، اعتبرت محكمة العدل الدولية أن تصريحات وزير خارجية الدنمارك التى جاء فيها: (إن حكومة بلاده لن تعارض رغبات النرويج)، اعتبرتها المحكمة بمثابة التزام قانونى على حكومة الدنمارك، وهو ما يسمى فى القانون الدولى التزام من جانب واحد أو تصرف بالإرادة المنفردة.

وحيث إن قاموس المجاملات العربية من أغنى قواميس اللغات قاطبة، فلنا أن نتصور تصريحا علنيا لأحد مسئولى دولة (س) يشير إلى نزاع مع دولة (ص) حول حق من الحقوق أو التزام معين، ثم - ومن باب المجاملة - يذكر فى كرم وأريحية: (ليس لدينا نزاع ولا خصام، فنحن أشقاء).

هذه الجملة البسيطة الجميلة النبيلة، يمكن ترجمتها قانونا بأن الدولة (س) تعلن على لسان مسئول أنها تخلت عن مطالبتها بالحق أو الالتزام، واذا كانت الدولة (ص) على قدر من الخباثة والدهاء، فليس عليها سوى أن تسجل هذا التصريح العنترى الحاتمى انتظارا للحظة التى يعرض فيها النزاع على التحكيم الدولى.

الكلمات فى ميزان العلاقات الدولية يجب أن توزن بميزان الذهب، لأن تلك العلاقات لن يوطدها أو يوترها علو صوت الكلمات أو زيادة حجمها، وكل كلمة لابد أن تحمل مدلولا محددا لا يقبل التأويل، إلا فى الحالات التى تقتضى فيها الحكمة توظيف الغموض.

ولعلنا لا ننسى أن كلمة واحدة Territories قد ملأ تفسيرها مجلدات فى مكتبة الصراع العربى ـ الإسرائيلى لأنها وردت فى قرار مجلس الأمن الشهير 242 خالية من إضافة حرف تعريف، ورغم أن ديباجة نفس القرار اشتملت على مبدأ (عدم شرعية الاستيلاء على أراضى الغير بالقوة) بما يعتبر كافيا لتعريفها، ورغم أن أربع لغات أخرى صدر بها القرار حملت حرف التعريف الملعون، إلا أن عباقرة الصياغات فى إسرائيل تمسكوا باللفظ الوارد فى النص الانجليزى، ولم يقبلوا أى تفسير آخر حتى من اللورد كارادون الذى صاغ القرار بنفسه.

وهناك تصريحات من نوع: (سوف نحرق وندمر..) وتلقى أحيانا من باب الوعيد أو تتسلل من ديوان الفخر والحماسة العربى، وتصبح بعد ذلك سوط عذاب دوليا على من تفوهوا بها، كدليل على وحشيتهم وعدوانيتهم، رغم أن الحقائق على الأرض تنطق بأن من نطقوا بذلك ضحايا ومساكين لا يملكون أن يحرقوا سوى أصابع أيديهم.. والأمثلة بلا حصر!!.

لذلك كله، لا مناص من أن تتضمن دساتير بعض الدول نصا يحرم على بعض البشر المسئول شهوة الكلام، أو أن يتوصل أهل العلم الى علاج أو نوع من الأدوية ضد إسهال الكلام الذى لن يكفيه طن من محلول الجفاف بعد خراب مالطة!.








مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة